الخصائص الفنيّة الملحميّة للسّيرة الشّعبيّة الجزائريّة دراسة تحليليّة لسيرة الملك سيف التّيجان أنموذجا
العدد 66 - أدب شعبي
المقدمة:
انتشر فن السّير الشّعبيّة عند العرب وكان للجزائر حظ من ذلك الجنس الشّعبي عندما دخلت أراضيها قبائل بنو هلال التي هاجرت من شبه الجزيرة العربيّة في اتّجاه شمال إفريقيا جماعات جماعات ونقلت معها كل عاداتها وتقاليدها وتراثها الثّقافي الحافل وأخذت هذه الثّقافة الجديدة تنتشر بين الأجيال وتكفّلت الرواية الشّفويّة بنقلها عن طريق قصص البطولة الملحمية.
وكان للروّاة المتجوّلين عبر أقطار المغرب الكبير أهميّة كبيرة في رواية ونقل هذه القصص البطوليّة والمساهمة في نشرها: (وقد كانت رواية السّيرة تتمتع بمكانة خاصة في حياة البدو، فقد كانوا يقومون باستضافة الرّاوي المحترف في مضاربهم لمدّة قد تطول فتبلغ شهرا، ويفتتحون روايتها بمراسيم خاصّة ذات طابع طقسي من بينها ذبح شاة واجتماع سكان الحي للعشاء معا في البيت الذي يستضيف الرّاوي ويفعلون نفس الشيء عند انتهائها1.
كان الرّاوي يقسّم روايته إلى عدّة أجزاء، ويروي كلّ جزء منها في ليلة واحدة، لكن مع مرور الزّمن أصبحت هذه المجموعة القصصية تروى متناثرة متأثرة بالظروف الجديدة التي صنعها التّطور الاجتماعي الحاصل، وصارت عبارة عن مجموعة من القصص الشّعبيّة التي تروى في أماكن متباينة وأزمنة متباعدة. ولعلّ أهم هذه التّغيّرات الاجتماعيّة الحاصلة كانت: (اتجاه البدو شيئا فشيئا إلى الاستقرار وممارسة الزّراعة)2.
هذا وإن كانت الأرياف تتداول السّير الشّعبية بين أبنائها، دون اللّجوء إلى المحترفين فإنّ المدن تعتمد على جماعة من المؤدين لهذا الفن الشّعبي، كان يطلق عليهم اسم المحدثين، على أنّ هذا الأداء له تقاليده التي تتوافق مع التّقاليد الفنيّة للجماعة الشّعبيّة ولهذا تتنوّع طرق وأساليب الإلقاء، حسب اختلاف أحوال المجتمعات الشّعبيّة العربيّة ومن ثم ندرك الصّور المتعددة لها.
ولم يكن وجود السّيرة الشّعبيّة مرتبطا بالحكاية التي تسردها فحسب، بل هو مرتبط بأهداف معينة مقصودة، ذات صلة وثيقة ودقيقة بضمير النّاس، وبالتالي يسهل إيصالها إلى أعماق وجدانهم .
الإشكاليّة:
هل تمكنت الملحمة البطوليّة الجزائريّة «سيف ملك التيجان» أن تتفق في موضوعها وقالبها السّردي مع الوظائف الفنيّة المميّزة لفن الملحمة القصصي الضارب في أعماق الأدب العالمي؟
الفرضيات:
- إنّ القصة البطوليّة «سيف ملك التيجان» تعبّر عن وجود السّيرة الشّعبيّة الجزائريّة وبكل ما تحمله هذه الأخيرة من خصائص فنيّة ذات صلة بالملاحم البطوليّة.
- نقلت هذه السّيرة الشّعبيّة كلّ ما تعلّق بالجوانب الاجتماعية للمجتمع الجزائري .
- عبّرت عن أهم فترة تاريخية مرت بها الجزائر في قالب قصصي ملحمي بطولي.
أهداف البحث:
إنّ الأدب الشعبي الجزائري لا يقل أهميّة عن الإبداعات التي وجدت عند بقية الأمم والنّص الموجود بين أيدينا يدل على وجود الفن الملحمي مجسدا في بطولة الملك سيف التيجان التي تخلّد بطولات أمّة. وتثري الإبداعات الوطنيّة التي تؤكد مرور الحضارات الإنسانيّة الخالدة على هذه الأرض المشبّعة بثقافات غزيرة وإنتاجات ضخمة.
منهجية البحث:
لقد اعتمدنا في تحليلنا لهذا النّص على المنهج الوصفي التحليلي، والذي من شأنّه استخلاص أهم الخصائص الفنيّة الموجودة في السّيرة الشّعبيّة الجزائريّة .
تعريف السّيرة الشّعبيّة:
1. لغة:
تعرف السّيرة في اللّغة: (سار بهم سيرة حسنة والسيرة«الهيئة»، وسير السيرة «حدث أحاديث الأوائل»)3.
والسّير جمع السّيرة :(وهي الطريقة سواء كانت خيرا أو شرا، يقال فلان محمود السيرة فلان مذموم السيرة)4.
و ورد لفظ السّيرة في القرآن الكريم في قوله تعالى : ﴿سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى﴾5 .
أي إلى حالها التي تعرف قبل ذلك، أو سنعيدها لهيئتها الأولى كما ورد في التّفسير: (خذ الحيّة ولا تخف منها فإنّنا سنعيدها لهيئتها التي كانت عليها )6.
عندما أمر الله تعالى موسى بأن يلقي بعصاه، وحوّلها بقدرته وجلالته إلى حيّة التهمت كل ما ألقاه السحرة من حيات، ثم طلب الله عزّ وجلّ من موسى أن يأخذ الحية دون خوف لأنّها ستعود إلى هيئتها من قبل أن نصيرها حية ونردها عصا كما كانت.
2. اصطلاحا:
و تعرّف السّيرة في الاصطلاح (بأنها عمل أدبي ولدته الظروف الاجتماعية والموقف السيكولوجي الذي يصاحب هذه الظروف )7.
والتعريف العلمي المعاصر يعتبر أنّها: (تاريخ من حيث تناولها لحياة فرد له أهمية كموجه للأحداث في عصره أو جماعة لعبت في تاريخ الشعب أو الانسانية دورا ذا أثر ...)8.
ومن خلال التّعاريف السّابقة نستخلص أنّ فن السّيرة يجمع بين القصص والتّاريخ، عندما يتحدّث عن حياة الشخصيّة البطلة، ويسرد الأحداث التي تتولّد عن احتكاكها بمظاهر الحياة والظروف المحيطة بها دون الفصل بين ما هو حقيقي يجذب العقول أو خيالي مبالغ فيه يثير النفوس.
مكانة السيرة الشّعبيّة
في التراث الأدبي العربي:
و تعدّد ذكر السّير الشّعبية في المأثور العربي، وعلى الرّغم من ضياع الكثير منها إلاّ أنّ الذّاكرة الشّعبيّة احتفظت بمجموعة كبيرة نذكر منها:
- السيرة الهلالية (بنو هلال).
- سيرة الزير سالم (المهلهل بن أبي ربيعة).
- سيرة الملك سيف بن ذي يزن.
- سيرة الأميرة ذات الهمة.
- سيرة السلطان الظاهر بيبرس.
- سيرة الأمير حمزة البهلوان.
و لقد نال القصص الشّعبي، اهتماما كبيرا عند مختلف الشّعوب، كونه النسخة المطابقة لآدابها وعاداتها وتقاليدها ومعتقداتها، كما أنّه يضع كل ما هو نموذجي في أبطاله، ويصور الحياة المثالية التي يحلم بها كل البشر بل ويعتقد بها وبأبطالها، الذين يمنح لهم من الصّفات ما لا يمكن بلوغه.
إنّ أهمية السّيرة الشّعبية: (تتمثل في ربط البطل بالنّاس، إمّا للقضيّة التي يمثلها، وإمّا لإيضاح الرّمز الذي يعنيه، والحركة الدائمة، والمغامرات التي تعتمد على السّمات الخلقيّة والجسديّة...)9.
إنّ بطل السّيرة الشّعبيّة يمثل كل ما يخطر في عقل ووجدان الشعوب التي ينتمي إليها، فهو يدعم قضايا الأمّة ويدافع عن ثوابتها، ويحمي ترابها من الأعداء المتربصين بأمنها واستقرارها، لذلك تجعله السّيرة مثاليا قادرا على تحقيق الانتصارات المستمرة، وصدّ المخاطر الخارجية المحيطة بأرضه.
و لم تكن قصص البطولة في السّير الشّعبيّة حكرا على أمة دون أخرى، وكما أنتجت الشعوب بطولات تغنت بها، كان للجزائر حظ لا يستهان به، وقد استطاع الباحث الجزائري الدكتور «شريف مريبعي» أن يضع يده على مخطوطة في الغرب الجزائري تحتوي على سيرة شعبيّة مغاربيّة جزائرية، تروي حكاية البطل «سيف التيجان» .
ملخص السّيرة الشعبيّة
«الملك سيف التيجان» :
لقد استطاع الباحث الجزائري الدكتور الشريف مريبعي، من العثور على مخطوطة في الغرب الجزائري تتضمن أحداث ملحميّة لبطولات وقعت في حقبة تاريخية مرّت بها الجزائر، كانت تتميّز بمعارك ضد حملات غزو، قامت بها الجيوش الإسبانية المستعمرة كمحاولة للاستيلاء على أراضي الوطن، في منطقة الغرب ومن ثم استنزاف ثرواته وخيراته الكامنة: (هي عبارة عن ملحمة بطوليّة، تدور أحداثها حول الفروسية تحتوي على 15 قصة تروي حياة البطل في نسج أسطوري، حيث نجد بطل القصّة «سيف التيجان»، يتزوّج من جنيّة وتنجب له ابنه سعد السّعود، يخوض البطل فيها معارك متواليّة، ويحقّق انتصارات باهرة على أعدائه الذين يتميّزون بالكثرة والقوّة والشّجاعة وتتفرع إلى قصص أخرى تسرد لنا الصّراع القائم بين أهالي المنطقة والأعداء، وتصف المعارك التي يخوضها البطل، ضد هؤلاء الكفار وعبدة الأوثان )10.
إنّ الأحداث الواردة في هذا الملخّص الذي عثرنا عليه، لا تختلف عن تلك التي تروي بطولات عنترة العبسي أو الظاهر بيبرس، أو سيف بن ذي يزن، أو غيرها من القصص البطولية الأخرى، فهي تتبع خطى الشخصية البطلة، وتنقل من خلالها طموحات ورغبات المجتمع الذي تنتمي إليه ممزوجة بالخوارق والخيال المبالغ فيه والذي لا يمكن تحقيقه في الواقع.
تحليل السّيرة الشّعبيّة
«الملك سيف التيجان»:
ظهرت البطولات الملحميّة، عندما وجد الإنسان نفسه في مواجهة العالم الآخر: (وأصبح همّه أن يصوّر النّموذج البطولي الإنساني الذي يستطيع أن يحقّق شيئا رائعا لعالمه الإنساني)11. لذلك كانت قصص البطولة تحمل الشعور الجمعي لدى أمّة من الأمم، عرفتها كل الشعوب وتغنّت بها على مرّ العصور والأزمنة فقد: (ظهرت ملحمتا الإلياذة والأوديسة عند اليونان وملحمة رولان عند الفرنسيين، وملحمة السّيد عند الإسبان والسّير الشّعبيّة عند العرب، وهي جميعا تشترك في سمات عامة تطبع هذا اللّون من الأدب، من أهمّها اعتماده على الوقائع والشّخوص التّاريخيّة، ومحاولة الرّاوي إضفاء ثوب الحقيقة على ما يرويه، ووجود وفاق بين إرادة القوى العلوية «الإلاهية» وإرادة البطل)12.
لذلك قمنا بتحليل هذه السّيرة من جوانب عديدة، حاولنا من خلالها التركيز على الخصائص الفنيّة الملحميّة الموجودة فيها والتي تتطابق مع المميزات الخاصة لفن الملحمة، تبعا لما جاءت به ملحمتا الشاعر الإغريقي هوميروس حيث: (اعتبرت الإلياذة والأوديسة نموذجا للفن الملحمي، وحدّد مؤرخو الآداب العالميّة خصائص الملحمة على هذا الأساس فأصبحت من المتّفق عليها بين جميع النقاد العالميين على أساس الخصائص التي تتميّز بها الملحمة الهوميريّة)13، وكل من تبعه وحاكى ملحمته بعد ذلك من الرومان وغيرهم:
1. الموضوع:
لقد سميت هذه القصة بالملحمة، والملحمة في أبسط وأدقّ تعريف لها :( قصة شعرية بطوليّة قومية تقوم على خوارق الأمور، وتختلط فيها الحقائق بالأساطير وتتغلغل العقائد الدينية والروحية في حناياها)14.
وهو شعر يقص أنباء المعارك والبطولة والأبطال على نحو ساذج خال من التعقيدات الفكرية والفنيّة يتناول معارك وبطولة الماضي السحيق، أو التّاريخ كما ينظر إليه الخيال الشّعبي ممزوجا بالأساطير وخوارق الأمور، هذا ما جعل الشعر الملحمي ينتقل بعد العصر القديم من الأدب الفني إلى الأدب الشّعبي .
وبناء على ذلك نستخلص الخصائص العامة المميزة لهذا النّص القصصي البطولي كما يلي:
2. وجود عنصر القصة:
ويتّضح ذلك في الملحمة من توالي الأحداث التي تتوازى وتتماشى في الوقت ذاته مع التطورات النفسيّة والاستطرادات المتكررة، وهذا تماما ما نقلته ملحمة الملك سيف التيجان، فأحداثها تدور في نسق متتال ومتكامل منذ بداية سردها إلى الاحتدام مع الأعداء، والانتقال من معركة إلى أخرى، مع الاستطرادات التي لازمت الأحداث، وكانت تخرج بنا من حين إلى آخر إلى أحداث فرعيّة، منتقاة بدقة وموضوعيّة محكمة حيث تأخذنا إلى محطّات جديدة وصراعات مثيرة: (تتكرّر في كثير من الأحيان بصيغ متشابهة مثل وصف ساحة القتال وعدّة المقاتل ومقدراته القتاليّة والمعركة والانتصار...)15. ثمّ تعود وتصب كلّها في الحدث الرئيسي وتدعمه.
الأحداث الخارقة والخيال المبالغ فيه:
تصوّر الملحمة أحداثها في جوّ أسطوري، يرفع البطل إلى عالم المثل العليا، حيث تبرز سمات البطولة الخارقة وتتحقق المعجزات فها هو «الملك سيف التيجان» يقهر الكفار ويلحق بهم الهزيمة تلو الأخرى على الرغم من قوتهم وكثرة عدّتهم، بل كان بطلا أسطوريا بكل ما تضمنته الكلمة من معنى، أظهر مهارات خارقة في القتال وحقق انتصارات باهرة.
و يبرز الخيال في هذه الملحمة البطولية، من خلال وجود تلك الجنية التي أعانت البطل على الوقوف في وجه العدوّ الشرس حيث :( تتدخّل القوى الخارقة لمساعدة البطل أو محاربته أو مناصرة أعدائه، غير أنّ تدخّلها لا يطغى على ما تصنعه القدرات التي يتمتّع بها البطل الإنسان، وهي قدرات عقليّة وجسمانيّة وروحيّة...)16.
إنّ هذه القوى الخارقة - والتي مثلتها الجنيّة في هذه القصة البطوليّة - قدّمت يد المساعدة للبطل عندما أعجبت بشجاعته وقتاله المستميت. والبطل الملك سيف التيجان يبدو أنّه كان يحمل صفات البطل الخارق المثالي الموجود في مخيلة المبدع الشعبي الذي رآه (مميزا عن سائر المخلوقات، وقادرا على تحقيق العمل الكبير الذي يغيّر الحياة وينقلها من طور إلى طور)17. إنّه البطل الباسل المغوار الذي لا يقهر ولا يمكن له أن يموت.
المعتقدات الدينيّة:
يبدو أن سيرة الملك سيف التيجان، لا تبتعد عن الملاحم الهوميريّة في توظيفها للعقائد الدّينيّة بشكل بارز، بل إنّ سيرورة الأحداث تدور حول الصّراع القائم على العقيدة، فالدّيانة الإسلامية كانت واضحة في شخصية البطل المسلم، الذي كان يحارب عدّوه الكافر - كما نعتته السّيرة - ولفظ الكافر هو عكس المسلم استنادا لما جاء في القرآن الكريم، ومن ذلك قوله عزّو جلّ :﴿وَمَن لــــَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾18.
إنّ الصراع الذي كان قائما بين البطل المسلم وبين الكفار الآثمين، كان صراعا شبيها بما كان يقوم به المسلمون أثناء الفتوحات الإسلاميّة، في معاركهم ضد عبدة الأوثان والمشركين. فقد بدأ الرّسول صلى اللّه عليه وسلم هذه المعارك والحروب بعدما حاول نشر الدين الإسلامي بشتى الطّرق، حتى جاءه الوحي من اللّه تعالى برفع السيّف في وجه العدوّ الكافر في قوله جلّ وعلا:﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾19.
إنّ البطل المسلم كان يمتلك قوة روحيّة، مستمدّة ممّا ورد في هذه الآية وآيات قرآنيّة أخرى، تحث على الكفاح والنّضال لرفع راية الإسلام والقضاء على المعتدي الكافر، كما كان يمتلك يقينا بأنّ الله ناصر عباده المسلمين لا محالة، وهذا وعد إلاهي لا ريب فيه.
وجود الحقائق التّاريخية:
ترفع الملحمة الأحداث إلى مقام لا يمكن التفريق فيه بين ما هو أسطوري خرافي وما هو حقيقي تاريخي فيختلط الخيال المفرط بالوقائع التاريخية الحقيقية، بل يمتزجان على نحو يستحيل الفصل فيه بينهما ويشكلان نصا موحّدا هو الملحمة البطولية :( والتّاريخ هنا ليس وقائع حدثت في الماضي، وإنّما هو ما يجب أن يكون، وبعبارة أخرى يمكن القول بأنّ أدب البطولة ليس تسجيلا لما وقع، إنّما هو بناء للنّموذج الذي يعتمد على معطيات واقع معاش، لكنّه يتجاوز هذا الواقع. وهو بقدر ما يبتعد عنه بقدر ما يقترب من الواقع النّفسي للشّعوب ويعبّر عن مثلها، ومن هنا فهو لا ينقل التّاريخ بحرفيّته إنّما يصنعه، وما البطل إلاّ صانع للتّاريخ)20. وهذا ما لا حظناه في سيرة البطل الجزائري الذي خاض معارك في الغرب الجزائري ضد الكفار ممّا يقودنا نحو الحقائق التّاريخية التي تؤرخ للمعارك التي وقعت في منطقة وهران ضد الحملات الإسبانية.
الإطار الزماني والمكاني:
1. الزّمان:
تسرد السّيرة قصة معارك وبطولات وقعت بين سكان المنطقة الذين ينتمون إلى الحضارة الإسلاميّة والعدو الأجنبي الذي ينعت بالكفر والشّرك والخروج عن ملّة المسلمين، إذ صارع فيها المسلمون أعداء هذا الدّين الحنيف، وربّما يعود زمن هذا الصراع إلى القرن الخامس حتى القرن السابع عشر تقريبا، إبان الخلافة الإسلامية الإسبانية، التي وصلت إلى الغرب في الأندلس، وما لحق وهران وما جاورها من الحروب آنذاك: (يقول المؤرخ الجزائري، محمد بن مبارك الميلي، إن بدايات الاحتلال الإسباني لوهران تعود إلى الفترة التي تلت سقوط غرناطة والأندلس عموما، سنة 1492)21.
2. المكان:
لقد وقعت المخطوطة في يد الباحث الجزائري، في منطقة ندرومة بتلمسان، وعلى ما يبدو فهي تؤرخ لمنطقة الغربية للجزائر، وهران وما جاورها حتى بلاد المغرب، ويضيف الميلي مستطردا في كتابه: (كما ثارت مخاوف الملكة الإسبانية إليزابيت من المسلمين الذي فروا إلى المغرب والجزائر وتونس. والنتيجة الوحيدة التي تهم في نظر الكاردينال هي ضرورة نقل الحرب ضد المسلمين إلى شواطئ المغرب العربي)22.
وتذكر كل المصادر التّاريخيّة أنّه تم حصار مدينة وهران وما جاورها ووقعت هناك معارك طاحنة بين المسلمين والكفار، حتى استعادت وهران استقلالها وحرية بلادها.
الشخصيات الواردة في النّص:
إنّ نص السّيرة الشعبيّة يتضمن شخصيات متعدّدة، ولكنّنا سوف نركّز في دراستنا هذه على شخصيتين تمثلان المحور الأساسي الذي تدور حوله الأحداث هما :
1. شخصية البطل:
إنّ البطولات التي تتحقق من طرف هذا البطل المختار، الذي يعكس المنطقة التي ولد فيها، تحمل رسالة حق تتمثل في الدفاع عن هويّة وشخصية أهالي المنطقة الغربية الجزائرية، من الأيادي الأجنبيّة، على أنّ هذه الهويّة أساسها هو الدين الإسلامي الحنيف دين الحق وآخر الرسائل السماويّة، ولقد كان بطل السّيرة الملك سيف التيجان، جزائريا مسلما ينصر دينه ويقف في وجه الكفار وعبدة الأوثان كما نعتتهم السّيرة المعثور عليها والتي تحدّد الفترة الزمنيّة التي وقع فيها الاحتدام: (فالمؤشرات االزمنية تؤطرنا في موقع زمني يستدعي بدوره شخصيات تّنتمي إلى نفس الإطار الزّمني )23.
إنّ معارك الفتح الإسلامي صنعت بطولات كثيرة، ربما تتكرر فيها الأهداف وطرق صدّ الكفار الآثمين، كونها تناضل من أجل إعلاء كلمة واحدة هي «الله أكبر» ولا شريك له في الملك، إلّا أنّ كل شخصية بطلة لابدّ أن يصنع لها المبدع خصوصيات ويضعها في قالب استثنائي متميّز ،فالبطل كما يرى النّقاد:( لا بدّ أن تكون له ملامح متميّزة تميّزه عن غيره )24. وهذا ما نلمسه في تتبع سيرة الملك سيف التيجان من خلال نص السّير الشّعبيّة.
2. حضور المرأة:
لا يمكن أن نمرّ على نص من النّصوص السّردية، دون الوقوف على دور المرأة في سيرورة أحداثه ولعلّ ما يلفت انتباهنا هنا هو أنّ المرأة تمتلك مميزات جديدة ربّما أحدثت ثورة في التصّور الإنساني ككل من حيث كون الدين الإسلامي قد زوّدها بخصوصيات لم تعرفها الأمم والحضارات السابقة جاء في محكم تنزيله قوله جلّ وعلا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)25.
لقد خلق اللّه الإنسان، وجعل منه الذكر والأنثى، ولم يفصل بينهما أي فاصل في الخلق سوى ما يميز به الشكل الجسدي لكليهما، أو بعض الأحكام التشريعيّة التي تسند إلى أفعالهما، لكنّ مسألة الجزاء والعقاب جعلت في مقام التسوية، فليس هناك فرق بين الجنسين في العمل وهذا ما تؤكّده الآية القرآنية التي يقول فيها الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)26.
إنّ هذا التوازن بين الذكر والأنثى، لم تحظ به الحضارات الأولى ومعتقداتها السائدة، فهنا من يذم المرأة على أنّها مخلوق شيطاني أوجده زيوس من أجل زرع الفتنة والشرّ في الأرض عندما حاول معاقبة برومتيوس. وهناك أساطير يونانيّة أخرى تنفي دور الرّجل وتؤكد على دور الأنثى كعنصر أساسي في خلق العالم الذي كان نتاجا لسديم ابتدائي انبثقت عنه الآلهة «هيا» (الأرض) التي بدورها تمنح الحياة لكل من يدبّ عليها، ثمّ ولدت السماء والجبال والبحر من غير أب، وبهذا تمنح الأسطورة اليونانية مكانة إيجابيّة للأنثى «الأم الأولى وتمنح مكانة سلبيّة للأب الذي كان غائبا عن عمليات الخلق الأولى»27.
و اختلفت الأدوار التي تقوم بها المرأة بين الخير والشّر، وهي تشارك في رسم أحداث النّصوص المتباينة، ومن ثمّ كان لها حضور واضح في النص الذي بين أيدينا ولكن بغير صفتها الإنسيّة بل فضل الخيال الشّعبي هذه المرة أن يضعها في ذات الجنيّة الخيّرة التي تقوم مقام الشخصيّة المساعدة للبطل، كما عبّر عنها فلاديمير بروب الذي يرى :( أنّه من الضروري تفحص كيفية توزيع الوظائف بين الشخصيات، عندما لاحظ أنّ العديد منها يجتمع منطقيا ضمن حقول عمل أو دوائر فعل الشّخصيّة، وهي سبعة... دائرة فعل المانح (الواهب)، وتحتوي على إخضاع البطل للتجربة أو الإختيار، ثمّ وضع الأداة السّحرية بتصرف البطل. دائرة فعل المساعدة وتضم مساعدة البطل على التنقّل وإصلاح الإساءة، أو سدّ الحاجة، كذلك إغاثة البطل أثناء المعركة...)28.
لم يقف دور الجنيّة عند مساعدة البطل فحسب، بل تزوّجت منه وأنجبت له، ومن ثمّ منحته القوى السّحرية التي يصنعها الخيال الشعبي في وجود العالم الثاني وارتباطه بالإنسان لخلق قوى جديدة تضاف إلى البطل، وتزوّده بنوع من المثالية أثناء خوض المعارك ضد العدو.، فهو لا يمكن أن يقهر أو يقتل، يخوض المعركة تلو الأخرى والخلود يسير إلى جانبه.
تحليل النتائج:
كان هذا تحليلا بسيطا لملحمة بطوليّة جزائريّة، تضاف إلى الإنتاجات الأدبيّة التي تنتمي إلى الإبداعات الوطنيّة بشكل خاص، والإبداع الإنساني على وجه العموم، ومن خلال تتبع هذا العمل الذي تمّ تصنيفه ضمن السّير الشعبيّة، وقفنا على النتائج الآتية:
- إنّ السّيرة الشّعبية وهي تحكي بطولات الأبطال في ثنايا المعارك والصراعات القائمة تحمل في طياتها ما يهمّ المجتمع الذي تعبّر عنه وتحرص على أن تضم في ثناياها ما يخدم أغراضها من المعلومات والبيانات المفسّرة سواء أكانت تاريخيّة أم تتعلّق بالعادات والتّقاليد والمعتقدات الجمعيّة.
- لقد تمكّنت السّيرة الشّعبيّة «الملك سيف التيجان» من نقل القيم الاجتماعيّة والسّياسيّة للمجتمع الذي وجدت فيه، وجسّدت ثقافاته الضاربة في عمق الحضارة الإسلامية الأصيلة، فالبطل كان مسلما جزائريا رافضا لكل أشكال السيطرة الاستعمارية التي تهدف بالدرجة الأولى إلى القضاء على تلك الحضارة في المنطقة، وطمس الهويّة الوطنيّة، ومحو الشخصية الجزائرية بكل أبعادها الحضارية وزرع الكفر والشرك ودسّ المعتقدات الوثنية. وقد ذكرت السّيرة المصطلحات التي تحمل تلك الدلالات الغزو والكفار وعبادة الأوثان.
- كما احتوت السّيرة على مادة أنثروبولوجية، تعبّر عن وجدان المجتمع، وهي غنيّة بألفاظ ذات دلالات حضارية ثقافيّة، نذكر منها الملابس والأدوات المنزلية والأغطية والأفرشة، هذا إذا أردنا أن نحللها من الناحية الاجتماعية. وكذا البناء والتّعمير، الصناعات اليدوية والحرف، الفن الموسيقي وآلاته، لو أردنا الحديث عن الجانب الثقافي، أمّا إذا نظرنا إلى الجانب الحربي فهي تذكر الكثير من أنواع الآلات الحربية وأدوات القتال وقوانين وقواعد الحروب آنذاك.
- وذكرت السّيرة الشعبيّة طقوس ومراسيم الزّواج المتعلقة بالمجتمع، وكل ما له علاقة بذلك الاحتفال من مهارات وعادات وتقاليد تعرّفنا عن طبيعة المجتمع الذي نشأت فيه هذه السّيرة وهي بذلك: (تقوم بدور الوساطة بين الماضي والحاضر، وبين القديم والجديد فهي القدرة الخالقة للحضارة والتّاريخ)29.
خاتمة:
تمكّن الأدب الشّعبي الجزائري من وضع إبداعاته المختلفة في قوالبها الفنيّة اللّازمة، وكانت السّيرة الشّعبيّة الجزائريّة «سيف ملك التيجان» ملحمة قصصيّة بطوليّة تغنّت بحقبة تاريخيّة مرّت بها الجزائر، ووصفت البطل والبطولة في أسمى معانيها ورفعت الأحداث إلى مستوى أسطوري مزج بين الخوارق والخيال المبالغ فيه من جهة وبين الحقائق التاريخيّة المثبتة من جهة أخرى، لقد أخذنا النّص إلى مرحلة من مراحل الحياة الاجتماعيّة التي عاشها الشّعب الجزائري وتغنّت بكلّ ما تميّزت به الثقافة الجزائرية إبان الصمود في وجه الأعداء المعتدين على أراضيها، وصّورت البطل الأسطوري سيف ملك التيجان بصفات أبطال الملاحم العالمية .
إنّ هذه الدراسة التحليلية للقصة البطوليّة الملحمية «سيف ملك التيجان» جاءت وفقا للملخص الذي تمكنا من الحصول عليه، وربما تقودنا النسخة الكاملة كباحثين في الميدان إلى الوقوف على دقائق التفاصيل، والخروج بزاد أوفر ممّا قدّمناه لحدّ الآن على أمل أن يعثر على المزيد من الآثار القصصية التي تعكس بطولات المجتمع الجزائري وتشخص هويته الثقافية الموغلة في القدم، وتكشف عن الثراء الذي يملكه هذا الوطن من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه.