فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

المسكن التقليدي بقرى واحات منطقة نفزاوة بالجنوب التونسي: التخطيط و الوظائف

العدد 19 - ثقافة مادية
المسكن التقليدي بقرى واحات منطقة نفزاوة بالجنوب التونسي: التخطيط و الوظائف
كاتب من تونس

تتعدد عناصر التراث الشعبي المادية منها و غير المادية بجهة نفزاوة التي تقع في الجنوب الغربي من البلاد التونسية، إذ نجد الزراعة في الواحات القديمة و الممتدة و التي وفرت عدة مواد مكنت من ممارسة مجموعة كبيرة من الحرف التقليدية المختلفة كالنجارة و نسيج الألياف النباتية... و يعتبر المسكن في هذه المنطقة من أهم مميزات التراث المعماري من خلال مكانته في النسيج الحضري التقليدي للقرية أو من حيث تأقلم تخطيطه مع المناخ و نمط العيش، كما لا تقل طرق استغلال المواد الأولية الطبيعية المتاحة على عين المكان أهمية عن ذلك نظرا لكثافة استعمالها و لما تتمتع به من خصائص إنشائية.

 1 - النسيج الحضري التقليدي:

لا يختلف النسيج الحضري التقليدي بقرى نفزاوة عما هو موجود بالقرى الواحية المجاورة مثل قرى قابس والجريد ولا حتى بالمدن العربية العتيقة في العصر الوسيط.

فلكل قرية سور يحيط به خندق، فقد تواصل وجود السور بـبازمة إلى منتصف القرن التاسع عشر1، في حين تحول الخندق الذي كان يحيط بقرية قبلي القديمة إلى طريق دائري سنة 19032. وقد تحتوي الأسوار على عدة أبواب أو باب واحد بحسب حجم القرية، فقرية بشري مثلا كانت تحتوي على «سور صخري ولها ستة أبواب3».أما قرية جزيرة لوحيشي فقد كان بها باب واحد لا يزال موقعه اليوم يسمى « باب السور ». كان لهذه المنشآت دور دفاعي بالأساس فالأسوار عادة ماتكون عالية والخندق يملأ ماء والأبواب تغلق ليلا لحماية القرية وسكانها نظرا لانعدام الأمن و انتشار الفوضى خاصة في القرنين الثامن والتاسع عشر.

يتميز تخطيط القرية بالمركزية حيث يتوسط الجامع والسوق الأحياء السكنية وخير دليل على ذلك قرية قبلي القديمة حيث « يتوسط المسجد الجامع بصومعة المتواضعة القرية وتجاوره غربا الرحبة التي تقوم مقام السوق حيث كانت تتواجد أغلب الدكاكين التجارية ... »4، ومن الساحة تتفرع مجموعة من الأزقة والأنهج الضيقة والملتوية وأحيانا مغطاة وتسمى « برطال » لتساعد على الحد من التأثيرات المناخية فتقلل من حراراة الشمس وتحد من قوة الرياح.

كما تساعد هذه الشبكة من الممرات على استغلال أقصى للمجال فتؤمن فيه الربط بين الفضاءات الخاصة والفضاءات العامة وتصل بين مختلف الأحياء بعضها ببعض. وتتوزع الأحياء توزعا قبليا حول مركز القرية وتتميز بمبانيها الكثيفة والمتلاصقة والمنغلقة على نفسها وهي ذات ارتفاعات متقاربة إذ لا تتجاوز الطابق الواحد.

تحتوي القرية على بعض المنشآت العامة كالمساجد التي تتميز بمآذنها البسيطة وأحجامها الصغيرة والزوايا التي لا يمكن وجودها دون قبة تعلو الضريح وعادة ما تتموقع قرب أبواب الأسوار. ولا تختلف هذه المباني عما هو موجود ببقية المناطق وحتى العمارة السكنية فهي لا تتميز سوى ببعض الخصائص القليلة. فالمسكن التقليدي عامة يرتبط تخطيطه بثقافة الجماعة

وحياة أفرادها اليومية وبحسب المعطيات المناخية والاقتصادية .

لا يختلف تخطيط المسكن التقليدي بقرى واحات نفزاوة عما هو موجود بقرى الواحات المجاورة بل هو التخطيط المتداول في كل جهات البلاد و المتمثل في المنزل ذي فناء مركزي تحيط به الغرف و فضاءات الخدمات كالمطبخ والمرحاض ... له مدخل واحد ذو سقيفة معقوفة وربما يوجد به طابق واحد. و مع ذلك تبقى للجهة خصوصياتها سواء من حيث العوامل المؤثرة في شكل المنزل أو مميزات التخطيط نفسه.

لقد ساهمت عدة عوامل في التأثير على تخطيط المسكن بنفزاوة. فنوعية مواد البناء الهشة حددت ارتفاع المنزل إلى طابق واحد فهي لا تتحمل أكثر من ذلك. كما أجبرت العوارض الخشبية المستعملة في السقوف على تحديد عمق الغرفة بحد أقصى لا يتجاوز الثلاثة أمتار. أما العوامل الطبيعية القاسية فقد جعلت سكان الجهة يفكرون في طرق التكيف معها وتلطيف الجو الداخلي للمسكن بأكثر قدر ممكن لذلك خفظوا في عدد الفتحات على الخارج للحماية من تأثيرات الشـمس والرياح المباشرة. كما وجهوا الغرف إلى الجنوب والشرق لأنها جهات تكون أقل حرارة في الصيف وأكثر دفئا في الشتاء. ويبدو تأثير العوامل الاقتصادية واضحا من خلال الفناء الواسع لممارسة بعض الأنشطة الحرفية أو الأشغال المتممة للأعمال الفلاحية. وهذه الازدواجية الوظيفية للمسكن تلتقي فيها أغلب المساكن في الأوساط الريفية5

أما التخطيط في حد ذاته فيتميز بالبساطة ويغلب عليه الشكل المستطيل ويستجيب لحاجيات سكانه من حيث إيواؤهم وحمايتهم. يختاره صاحب المسكن بنفسه حسب عدد أفراد أسرته ويتطور تدريجيا لأسباب اجتماعية كزواج أحد الأبناء واقتصادية كعائدات صابة التمور... ولا يفرق التخطيط عامة بين الغني والفقير إلا في مستوى الحجم: فكلاهما يستعمل المواد نفسها ويعتمد الشكل ذاته والمسكن بالنسبة إليهما ينبع من تصور مشترك للحياة ومستلزماتها. لذلك يحتوي المنزل التقليدي على الوحدات نفسها مع تغيير بين الطرفين في مستوى بعض القياسات في حين تبقى الوظائف نفسها مهما تغيرت الحالة المادية للمالك.

 

 

2 - تخطيط المسكن و وظائفه:

*السقيفة :

السقيفة هي مرحلة من مراحل التدرج من الفضاء العام إلى الفضاء الخاص أي من النهج أو الزقاق إلى الفناء و تعرف بكونها ممرا منعرجا يتميز بمدخليه الأول يطل على خارج المسكن والثاني على فنائه، هذا الأخير يترك بدون باب. أما الأول فيصنع له باب من ألواح خشب النخيل وعادة مايتكون الباب الخارجي بنفزاوة من مصراعين. ورغم أن السقيفة من الفضاءات الوسيطة6 بين داخل المسكن وخارجه إلاّ أنه يتم استعمالها من حين إلى آخر في بعض الأغراض، إذ تمارس فيها صاحبة المسكن بعض الأنشطة الحرفية كالنسيج أو صناعة السعف. كما تؤثث في بعض الأحيان بزير من الفخار أو قربة ماء في إحدى زواياها.

*المخزن :

يكون المخزن عادة ملاصقا للسقيفة إذ بالإضافة للباب الذي يفتح على الزقاق، له باب آخر يفتح عليها أو على فناء المسكن، وهو في ذلك يشبه تماما ما هو موجود بالعمارة السكنية بوذرف7 يتميز المخزن بحجمه الصغير، يستقبل فيه صاحبه التجّار لبيعهم محصول التمور والخماس لإعطائه التوصيات اللازمة، لذلك يؤثث بدكة صغيرة فوقها حصير مع طاولة خشبية صغيرة وبعض معدات طبخ الشاي .

*الحوش :

يدل هذا المصطلح في نفزاوة كما في باقي جهات الجنوب التونسي على المسكن بأكمله كما يعني في نفس الوقت فناء المسكن. يتميز الفناء ببساطته إذ تترك أرضيته عارية أو تغطى بطبقة من الجبس المحلي أو التربة. أما مساحته فتختلف من مسكن لآخر، لكنه في الغالب متسع رغم ضيق الأنــهج والأزقة مما يوفر إمكانية بناء فضاءات جديدة فيما بعد.

يلعب الفناء مجموعة من الأدوار الهامة فهو يقوم بوظيفة هندسية طبيعية، إذ ينظم التنقل بين الغرف وأماكن الخدمات التي تحيط به ولا تتصل ببعضها البعض. و هو كذلك المعدل لدرجات الحرارة ومصدر الإنارة الطبيعية للغرف. أما وظيفته الاقتصادية فتتمثل في تسهيل عملية رفع المنتجات الفلاحية إلى سطوح الغرف قصد تجفيفها و تمارس فيه بعض الأنشطة اليدوية كسف السعف. كما أن له وظيفة اجتماعية ثقافية إذ يوظف للسهر صيفا و السماع للأساطير والحكايات وتقام فيه احتفالات الزواج والختان.

يحتوي الفناء ببعض المساكن على بئر تستغل مياهه لغسل الأواني والملابس بينما تجلب مياه الشرب من العيون الطبيعية، كما يمكن أن يوجد به مدرج إذا كان بالمسكن طابق علوي وإن كان لصاحبه بعض الزياتين، فهو يبني معصرة يدوية في ركن من الفناء وتسمى « قرقابة ».

ورغم أهمية الفناء من الناحية المعمارية و تعدد الوظائف بالمساكن الريفية عامة ومساكن واحات نفزاوة خاصة و أهمها التقاء الفضاء السكني مع الوحدة الاقتصادية، تبقى « الدار» أي حجرة السكن الوحدة المميزة للمنزل التقليدي بالمنطقة.

*الدار:

يطلق مصطلح « الدار» في أغلب جهات البلاد على المنزل،أما بـنـفزاوة وبعض الأماكن الأخرى من الجنوب فتدل هذه المفردة على الغرفة في حين يطلق مصطلح غرفة على الطابق الأول.

تبنى الغرفة بالمسكن التقليدي بصفة تفاضلية في مستوى اتجاهها فأول ما تكون جنوبية (قبلية) ثم شرقية ( بحرية) وشمالية ( ظهراوية) وأخيرا غربية. والقصد من ذلك استغلال أقصى لمسار الشمس. تتميز الغرفة بالجهة بشكلها وتقسيماتها الداخلية. ففي مستوى الشكل فهي دائما مستطيلة إذ يبلغ طولها أحيانا 12 مــترا وحتى أكثر، أما عمقها فلا يتجاوز ثلاثة أمتار بينما يتراوح ارتفاعها ما بين ثلاثة وستّة أمتار. للغرفة باب واحد يفتح للداخل وله عتبة تمنع تسرب الأتربة والحشرات، إضافة إلى مجموعة من « الطيق» وهي فتحات صغيرة تعلو الباب، يبلغ ارتفاع الواحدة 70صم وعمقها 20صم وتساهم في التهوئة والإنارة .

أما على مستوى التقسيمات الداخلية، فالدار تنقسم إلى ثلاثة فضاءات لكل منها وظيفته الخاصة8. نجد على الجانب الأيمن دكة تبنى على كامل عرض الغرفة بعمق يصل إلى ثلاثة أمتار وارتفاع 50 صم و تخصص لنوم الأطفال. أما على الجانب الأيسر فنجد المقصورة التي تقسم بدورها إلى جزأين: أعلى وأسفل، فبينما يخصص الجزء الأعلى لنوم الوالدين، يخصص الأسفل لخزن بعض المواد كالحبوب ... ويستغل الفضاء الثالث بينهما لعدة أغراض، إذ يجتمع فيه أفراد العائلة حول مائدة الطعام وتستقبل فيها ربة البيت ضيفاتها المقربات ويصبح المكان المفضل في فصل الشتاء عندما يلتف الجميع حول الجدة تروي لهم الخرافات9...

تختلف تقسيمات الغرفة كما تتعدد وظائفها وتختلف باختلاف عدد أفراد الأسرة وعددها بالمنزل. يستغل صاحب المسكن كل المساحة الداخلية، لذلك نجد في بعضها مجموعة من « الأوثار » أو« العساكر » التي تعلق عليها عراجين التمور: يصنع الوثر جذع النخلة أما العسكر فهو الذي يصنع من أغصان الزيتون. وأدى تعدد الوظائف وتوزعها بين القارية والموسمية إلى تنوع الأثاث الموجود بالغرفة مما جعل كل الفضاءات مستعملة:الأرضية والجدران...

تبنى الغرفة الأولى ذات توجه جنوبي وتصطف بجانبيها فضاءات الخدمات وأولها المطبخ الذي يكون ملاصقا لها، لعله يمدها ببعض الدفء شتاء.

*فضاءات الخدمات :

المطبخ:

يتميز هذا العنصر بحجمه الصغير ومدخله بدون باب. لا توجد بالمطبخ منافذ أخرى لذلك سرعان ما تسود جدرانه بفعل استعمال الحطب للطبخ على نار الأثافي . يوجد به مرفع منقور في الحائط أو متكون من ألواح خشبية . تتعدد وظائف المطبخ ويتنوع أثاثه. فهو يستغل أساسا للطبخ كما هو معروف ببقية المناطق وفي نفزاوة يقوم بدور الخزن لبعض الأنواع من المؤن التي تحفظ في أواني مختلفة من الجلد والسعف والنحاس كالسمن والدقيق والدشيش10...

المرحاض:

تكتسي المراحيض أهمية كبرى بقرى الواحات بصفة عامة فقد حدّثنا التيجاني في القرن الرابع عشر عن بيع السماد الذي توفره مدينة قابس11. كما كان أغلب فلاحي الجريد يبنون مراحيض من واحاتهم ويجلسون بالقرب منها لاستدعاء المارة للتبرّز بها12. « السنداس » كما يسمى المرحاض بـنفزاوة مجرد بناء صغير يبنى في زاوية من زوايا المسكن ومدخله بدون باب لكنه منعرج إذ يحمى بجدار يحجب الرؤية على من هم خارجه. يصعد له بالدرج وتوجد بداخله جذوع نخيل مستقيمة ومتباعدة، يصعد عليها الإنسان . كما يحتوي على فتحة تطل على الخارج في أسفل الجدار وتسمى « تنّورة » تستخدم لإخراج الفضلات التي تنقل إلى الواحة .

الإسطبل:

لا يعتبر الإسطبل عنصرا أساسيا في المسكن التقليدي بنفزاوة وإن وجد فيغطيه سقف بإحدى زوايا الفناء لحماية الحيوانات من أشعة الشمس والأمطار. يتكون هذا السقف من جذوع النخيل كعوارض أعمدة ويكدس فوقها الجريد لتقوم بدور الحماية. يحتوي هذا العنصر إضافة لإحدى دواب الجر بعض الماشية مـن ماعز وضان تخزن مع القطيع الذي يكون تحت راع جماعي للقرية.

لا يمثل الإسطبل العنصر الوحيد غير القار في المسكن بنفزاوة إذ تغيب بعض العناصر الأخرى وتحضر بحسب الحاجة إليها مثل السطوان والطابق العلوي.

الرواق أو السطوان :

يسمى ببشري « ددبان» وهو عبارة عن رواق مغطى ويتميز بهندسته المعمارية النادرة فهو عادة ما يرتكز على بعض الأعمدة المركبة من قطع حجرية كبيرة تعود للفترة الرومانية، تشد لبعضها البعض بحجارة صغيرة أو بروابط من الجبس المحلي. تختم هذه الأعمدة أو الركائز بحجرة مسطحة، توضع عليها العوارض الخشبية التي تحمل السقف. يجب أن يكون هذا السقف من النوع المتين إذ جرت العادة أن يبنى طابق فوق السطوان.

يكون السطوان ذا واجهة تفتح على الفناء مما يوفر بعض الهواء اللطيف صيفا، يستغل لقضاء بعض الوقت و الاسترخاء في القيلولة ... يختلف السطوان بقرى نفزاوة عما هو موجود بـقابس ففي حين يكون بالجهة الأولى تحت الطابق مباشرة يتموقع بالثانية أمام الغرفة باعتباره فضاء وسيطا يربط بين الغرف و الفناء13.

الطابق العلوي:

لا يختلف الطابق العلوي عن « الدار « إلا بخلوه من التقسيمات الداخلية فهو مبني بالمواد نفسها وبالتقنيات الهندسية ذاتها. يسمى بالجهة «غرفة» كما في بعض المناطق الأخرى من الجنوب ويستخدم في خزن التمور، لذلك توجد به بعض الخوابي ذات الحجم الكبير. كما يحتوي على بعض « الأوثار» لتعلق عليها العراجين وبعض المسامير الخشبية التي تشد إليها بعض الخضر المجففة كالثوم و البصل...

يصعد للطابق (الغرفة) بالدرج التي عادة ما تبنى في إحدى زوايا المسكن ويكون أمام الباب ممشى من أخشاب النخيل يسهل الصعود إليه وبالتالي الوصول إلى بابه.

لئن احتفظ المسكن التقليدي بـنفزاوة بالعناصر المكونة للتخطيط الذي ينتشر في كل مناطق البلاد فانه يتميز ببعض الخصائص المحلّية التي ساهمت عوامل عديدة في وجودها.فأهم الفضاءات القارة تتوزع حول الفناء توزعا منطقيا وتتكيف حسب حاجيات ساكنيه وطبقا لنمط عيشهم، أما الفضاءات الأخرى فمرتبطة بالظروف الاجتماعية والمادية لصاحبه، أي من حيث عدد أفراد الأسرة ومستوى دخلها. و هذه الظروف نفسها ساهمت في اكتساب العمارة السكنية بنفزاوة صفة البناء على مراحل، يتلازم فيها تطور البناء مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية للعائلة.أما من حيث المميزات الهندسية فان المنزل التقليدي بالجهة يحاول من خلال تخطيطه اكتساب شيء من الرفاهية مقارنة بخارجه مع ضرورة تأقلم شكل البناء مع الوظيفة التي يؤديها سواء نوم أو خزن أو طبخ... و لم يتحدد التخطيط بفعل التأثيرات الطبيعية فقط بل كان للمواد المستعملة دور هام وأساسي في جعله بهذه السمات إذ أجبرت البنّاء على عدم تجاوز قياسات معينة في مستوى ارتفاع وسمك الجدران وعمق الغرف.

 

3 - مواد البناء و أساليب الإنشاء:

إن من أهم ما يميز العمارة التقليدية استعمالها لمواد بناء محلية إذ توفر هذه المواد عدة امتيازات لعل أهمها التأقلم مع المناخ السائد بالجهة ووجودها على عين المكان، مما يوفر عناء ومشقة نقلها إضافة لكونها زهيدة الثمن وطيعة الاستعمال، مما يجعل استخدامها في مختلف مراحل إنشاء المسكن أمرا سهلا.

استغل أهالي نفزاوة المواد الطبيعية المتاحة لهم في البناء كما توفرت لهم أو أدخلوا عليها بعض التغييرات . ومن بين أهم المواد يمكن ذكر الحجارة و الأخشاب والرمال.

أما الحجارة فهي متنوعة ومصدرها الأساسي جبال الطباقة، وهي التي تستخرج من مقاطع مفتوحة، فتختلف من حيث اللون والحجم مثل الزرقاء والصفراء ويطلق عليها اسم «الصم» أو «رشاد» ومنها ما يلتقط على سفح الجبل وتسمى «سامس». ولئن تميزت هذه الأصناف بصلابتها فهناك أنواع أخرى من الصخور الهشة مثل الطوب أو «الترشة» المتميزة بلونها البني وبكونها عازلا جيدا للحرارة، ثم «روس كلاب» وهي حجارة بيضاء اللون تستخرج من ضفاف شط الجريد وتستعمل هذه الأصناف من الصخور في بناء الجدران.

كما يستعمل أهالي الجهة نوعا من الطين يسمى «  روبي » يوجد على عمق ضعيف من الأرض وفي كل المناطق. يمزج هذا الطين بالماء ويستعمل كرابط في الجدران ولا يستعمل كملاط لأنه سريع التأثر بالرياح والأمطار. تصنع منه في بعض القرى قوالب للبناء بعد خلطه بالقش. أما التربة وهي تراب بني اللون يوجد قرب سلسلة جبال الطباقة فتستعمل كطبقة من طبقات السقف نظرا لقدرتها الكبيرة على امتصاص المياه. كما تستخدم كبلاط للأرضيات نظرا لتماسكها السريع بعد رشها بالماء. وأخيرا تستعمل رمال الأودية المنحدرة من الجبال كبلاطات خاصة لصحن المسكن.

وقد استطاع أهالي الجهة صناعة نوع من الجبس المحلي يستعمل بعد خلطه بالماء كرابط جيد للجدران وكملاط لها وللسقوف. من مميزات «  الزبس » الصلابة وسرعة الجفاف ورخص الثمن وسهولة صناعته، كما تصنع منه قوالب لبناء الجدران في القرى البعيدة عن الجبال مثل بشري.

وإن وفرت الجبال والمناطق المجاورة لها هذه الأنواع من الحجارة والترب والصخور فان الواحة وفرت بدورها بعض المواد الأساسية في الـبناء. وأهم هذه المواد أخشاب النخيل والأشجار المثمرة. ويعتبر النفزاوي حكيما في ترشيد استهلاكه للخشب حيث لا يستعمل إلا النخيل ذات المردود الضعيف أو تلك التي قل إنتاجها... يتكفل بعملية قص النخيل شخص له خبرة يسمى «  قصاص » ويمر جذع النخلة بعدة مراحل قبل استخدامه، إذ يقسم إلى نصفين ويترك ليجف ويرمى عليه الملح للقضاء على السوس ثم يأتي دور النجار الذي يحوله إلى ألـواح وعوارض وسواكف و موازيب...

أما أخشاب الأشجار المثمرة كالزيتون والرمان ونظرا لصلابتها وتوفرها بكثرة بالجهة مقارنة بمنطقة الجريد حيث تباع بأسعار مرتفعة فإنها تستخدم لربط ألواح الأبواب من الداخل أو كأعمدة وأقفال.

وما إن تتوفر هذه المواد على عين المكان حتى يبدأ البناء مع صاحب المسكن في رسم التخطيط ليلتحق بهم فيما بعد وأثناء مراحل العمل المتلاحقة من يساعدهم من الأهل والجيران بدون الحصول على مقابل مالي، فقط ما يوفره لهم صاحب المسكن من طعام. وهو ما يبرز الروح الجماعية لدى أهل القرية وما يتسم به أغلبهم من حب للمبادرة والتضامن خاصة و أنهم يأتون من تلقاء أنفسهم.

أما عن أساليب بناء المسكن بنفزاوة فهي لا تختلف عن نظيراتها في أغلب أصقاع المعمورة إلا فيما فرضته طبيعة المواد المحلية المستعملة.

يشرع البنّاء برسم التخطيط على الأرض ثم حفر الأسس التي يختلف عمقها باختلاف نوعية التربة ثم توضع به الحجارة الصلبة وتدك بدون استعمال رابط أو ملاط. عندما يصل البناء إلى مستوى الأرض يبدأ البناء في وضع الجدار والظفرين من الحجارة المنحوتة في شكل مكعبات و يملأ الفراغ بينهما بما تساقط من الأجزاء الصغيرة أثناء عملية النحت و تسمى «الملية» و«الشرشور». يغطى السطر الأول بطبقة من المادة الرابطة مثل « الروبي » ليتواصل بناء الأسطر الواحد تلو الآخر بالطريقة نفسها.

وبما أنهم يدركون هشاشة بعض المواد من ناحية وقسوة الطبيعة من ناحية أخرى، كان الأهالي لايبالغون في ارتفاعات الجدران بل يدعمونها بجذوع النخيل والحجارة الضخمة ويستعملون مختلف وسائل الربط خاصة في زوايا البناء.أما المداخل والفتحات كالباب الرئيسي وأبواب الغرف فقد كانت توظف لبناء أطرها الحجارة الضخمة وهي من بقايا الفترة الرومانية ثم يوضع لها سواكف مستقيمة من خشب النخيل.

وتتنوع الأسقف المستعملة بـنفزاوة لكنها جميعا من النوع المسطح نظرا لتوفر المواد الأولية بكثرة. فهناك سقف « الحصيرة » ويتمثل في وضع حصيرة مصنوعة من جريد النخيل على العوارض الخشبية المتباعدة بحوالي 50صم،تسمى هذه العوارض بمنطقة الجريد « زايزة »14. تغطى الحصيرة بطبقة من القش لسد المنافذ ثم طبقة من التربة التي تساهم في انعدام تسرب الماء وأخيرا يطلى السقف بطلاء من الجبس.وتستعمل في سقف « الربعي » نفس الطريقة مع تعويض الحصيرة بألواح خشبية تسمى «  ربعي » يتراوح طول الواحدة بين متر و مترين وعرضها 30صم وأخيرا السقف « النفزاوي » ويتمثل في وضع العوارض ملتصقة رغم اختلاف أحجامهـا، وعوضا أن ترصف فوقها طبقة من الحجارة المسطحة مثلما هو موجود بـقابس15 يتواصل استخدام نفس طبقات الأسقف السابقة.

هكذا وفرت الظروف الطبيعية بـنفزاوة عدة أنواع من المواد كجذوع نخيل و أغصان أشجار والحجارة بمختلف أصنافها فاستغل السكان قدراتها لاستعمالها في البناء فهي من جهة تتكيف مع المناخ المحلي و من ناحية أخرى قريبة جدا من موقع القرية.

ونظرا لسهولة تشكيلها فقد طوعت بأشكال مختلفة و تنوعت طرق استعمالها و الاستفادة منها في المراحل المتعاقبة من الإنشاء اعتمادا على معارف في فنون البناء متراكمة و متداولة منذ مئات السنين.

الهوامش

1: Guerin(V.),Voyage archeologique dans la Regence de Tunis, Paris1862,P240.

2:Augias(L.), «Deux années au Nefzaoua», Revue Tunisienne,N°85,1911,P45.

3: ضيف الله(محمد )، نوافذ على تاريخ نفزاوة ، مطبعة بابيريس دار شعبان الفهري ،جوان2000، ص168.

4: (البكري( أبو عبيد )، كتاب المسالك و الممالك ، بيت الحكمة قرطاج، 1992، ج2، ص21.

5: (البقلوطي (الناصر)،  « عمران قابس القديمة و عمارتها التقليدية »، مجاة افريقية ،1988، عدد10، ص22.

6: مقابل وجودها مفردة في مساكن قرى واحات نفزاوة تتعدد السقيفة بقرى واحات الجريد فعلى أقل تقدير توجد سقيفتان تسمى الأولى برانية و الثانية دخلانية وربما يصل عددها إلى ثلاث أو أربع أو حتى خمس سقائف خاصة بحي أولاد الهادف بتوزر.

7: Cerato(C.),  « L’habitation à Oudref », Cahiers des arts et techniques d’Afrique du Nord,N°5,1959,P67.

8: Chaabouni (M.) et Gdoura (H.) , Contribution à la revalorisation du Sud ,I.T.A.A.U. ,Tunis1982,P79.

9: لا يعتبر هذا التقسيم الوحيد بنفزاوة إذ يمكن أن تحتوي الدار على دكانتين ،كل واحدة من جهة أو دكانة من جهة و سدة من خشب النخيل من الأخرى و أخيرا دكانة و مخزن وهو عبارة عن حائط أو جدار صغير على ارتفاع بسيط تصطف إلى جانبه خابيتان.

10: المرزوقي( محمد )، مع البدو في حلّهم و ترحالهم، الدار العربية للكتاب ، تونس1984، ص250-255.

11: التيجاني(أبو عبد الله)، رحلة التيجاني ، الدار العربية للكتاب ، تونس 1981، ص90.

12: M’rabet(A.),L’architecture du Djerid , thèse de doctorat du 3e cycle, Juin1985,P128.

13: الناصر ( ا لبقلوطي)، « عمران قابس القديمة و عمارتها التقليدية » ،إفريقية1988،عدد10،ص24.

14: Bourg(A.), « L’habitat à Touzeur » , Chiers des arts et techniques d’Afrique du Nord ,N°5,1959,P97.

15: الناصر ( ا لبقلوطي)، « عمران قابس القديمة ...، ص28

أعداد المجلة