فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

الفلامنكو.. الغـنائيات والعـــــزف والرقصات

العدد 20 - موسيقى وأداء حركي
الفلامنكو.. الغـنائيات والعـــــزف والرقصات
كاتب من مصر

الفلامنكو هذا الفن الغنائي الراقص الأنيق والرقيق تبوأ مكانة متميزة في إسبانيا بعد أن وجد تربته الخصبة في رحابها وبما تحظى به من أكبر إرث فولكلوري موسيقي منوع في العالم ويمكن ملاحظة الثراء بإلقاء نظرة على الكم الهائل من دواوين الأغاني الإسبانية أما التنوع فيمكن الحديث عن رحابة آفاقه وتباينه متمثلا في تعدد الأساليب التي تتفق وتعدد الأسس الحضارية والثقافية واللغات واللهجات الموجودة في إسبانيا،

ويرجع هذا التنوع اللحني من ناحية أخرى إلى تعدد وتباين القوميات التي تشكل شبه الجزيرة الايبيرية والذي ترتب عليه كنتيجة منطقية تنوع الموسيقي الشعبية الإسبانية بين طابع مقتضب تتميز به بلاد الباسك شمالا إلي سلس سيال في الأندلس جنوبا ومرهف عاطفي في كاتالوينا في الشمال الشرقي إلى صارم يتفق وتضاريس وطبيعة منطقة قشتالة إضافة لتعدد التأثيرات السلالية التي تعرضت لها إسبانيا طوال تاريخها : السلتيون - الفينيقيون - اليونانيون - الرومان - العرب - الغجر. وإسبانيا هي البلد الأوروبي الذي يتمتع بأكبر عدد من الرقصات حتي يمكن القول بأنه إذا كانت فرنسا هي «مرضعة» الرقص فإن إسبانيا هي الأم الحقيقية له وربما كانت الأندلس هي المقياس الحقيقي لاستشعار هذه التأثيرات المتعددة علما بأن الرقص الأندلسي هو الرقص التقليدي الوحيد الذي مازال يمارس في عالمنا المعاصر وقد درج المتخصصون على تقسيم الرقصات الشعبية الإسبانية إلى قسمين رئيسيين : التقليدي والفلامنكو ولعل أشهر رقصاته : التانجو - فاروكا - جارروتين(1).

ولقد بث الغجر في الموسيقي الإسبانية منذ القرن الثامن عشر روحا جديدة أوحت لكثير من كبار المؤلفين الإسبان أروع قطعهم لعل أشهرهم الموسيقار الأندلسي (مانويل دي فايا) ومن قبل استوحى الموسيقيون الهنغاريون أفضل ألحانهم من الأغانى الغجرية وكيف ينسى الإسبان  مطلربتهم الغجرية الشهيرة (لولا فلوريس) وعازف الجيتار الشهير الغجري (مانياس دي بلاتا) ورقصات الفلامنكو التي تميز إسبانيا عن باقي الدول الأوروبية الأخري لقد قيل إن الموسيقي هي وسيلة التعبير عما يخالج روح الغجري ولكن ظهر فيهم كتاب وفلاسفة وشعراء وراقصون منذ استوطنوا إسبانيا في القرن 18 (2) قادمين إليها من شمال الهند وطبقا للعلماء جرلمان وريتشارد برتون وبوت وبورد وانتون هيرمان وكميل اردوش) وكلهم حجة ثقة بأنهم ينتمون إلى قبائل (الجاتس) التي كانت تعيش عند نهر (اندوس) شمالي غرب الهند وكانوا يعتاشون من الموسيقى والغناء وصنع الحبال وقد نزحوا من الهند ثلاث مرات الأولى هجرتهم لمصر وعرفوا بالهكسوس فطاردهم المصريون وهزموهم عندما حاولوا تكوين دولة لهم في صحراء مصر والثانية لمصر أيضا عند غزو الاسكندر للشرق أما الثالثة ففي بداية غزو المسلمين للهند عندما أخضع المعتصم قبائل (الجاتس) ففروا لمصر ولايران وشواطئ البحر الأسود وأوروبا ويرى الباحث العراقي مصطفي جواد أن أقدم تسمية عربية للغجر هي (الزط) بضم الزاي وتشديد الطاء كما تحدث عنهم البلاذري والخوارزمي والمسعودي والطبري كما ورد إسمهم في الشعر العربي قديمه وحديثه فذكرهم الشعراء دعبل الخزاعي وابن سكرة الهاشمي والأحنف العكبري وأبودلف الخزرجي الينبوعي ووديع ديب ومحمد الفايز وعبدالوهاب البياتي والشاعر الأردني عرار الذي عرف بشاعر الغجر ودافع عن قضيتهم الاجتماعية وكان قلبه أسير جمال فتياتهم جاء في كتاب «سيرة الغجر» لمؤلفته الهنغارية ايزابيل فونيسكا أن القرن 14 سجل أول ظهور لهم في أوروبا عندما قدموا أنفسهم كحجاج يحملون رسالة من قداسة البابا فطافوا بفرنسا وألمانيا وإيطاليا والسويد وانجلترا وإسبانيا والبرتغال والدانمارك وبولندا وهنغاريا فتحولوا الى مغنين وموسيقيين وحواة وأحيانا مزارعين وحدادين وحلاقين وتجار خيل أما نساؤهم فاشتغلن عادة بقراءة البخت والعرافة في مطلع القرن 16 كانوا قد استقروا بكل أوروبا وألفت عدة كتب عنهم وقد تضايق الناس من خشونتهم وتوحشهم وقذارتهم وسرقاتهم ونصبهم وشعوذتهم وابتزازهم السنج بادعاء القوة السحرية فاعتبروا السرقة حق منحه الله لكل غجري لذلك عاشوا مطاردين من الشعوب والحكومات والكنائس فسنت ضدهم القوانين بداية في ألمانيا ثم في جميع أنحاء أوروبا واتخذ ضدهم أقسى أنواع الاضطهاد من العام 1550 - 1780م رغم كل ذلك احتفظوا بكيانهم فكان يعقد أكبر تجمع لهم ما بين 24 و26 مايو من كل عام بأراضي (كاماراج) بجنوب فرنسا ليقدموا احتراماتهم للقديسة مريم البيتغانية وللقديسة سارة حاميتهم فيأتون من كل أنحاء الأرض يجمعهم إرث مشترك هو التنقل المستمر منذ ألفي عام وهم يتميزون ببشرتهم الداكنة وشعرهم الأسود وثيابهم الغربية الزاهية ولغتهم الخاصة الآرية الهندية كما برعوا في نسج القصص والحكايات الخيالية في إسبانيا تآلفوا روحيا مع أجوائها وتقاليدها فعاشوا بجوار الموريسكين في الحقول والقرى والأحياء البائسة بالمدن الكبري ورغم تهميشهم وإقصائهم تمسكوا بهذه الأرض وواجهوا كل قوة حاولت تدميرهم فحققوا ذواتهم بإسبانيا التي أنشئ بعاصمتها منذ سبعينيات القرن الماضي مركز للدراسات الغجرية لدراسة أسلوب حياتهم وتحسينها كما أنشئت في المدن الكبري هيئات مختلفة لمواجهة احتياجاتهم وإدارياتهم كما عولجت مشاكلهم على صعيد الأدب والشعر الإسباني(3) ولقد وجدت رقصات الفلامنكو تربتها الخصبة في رحاب الأندلس حيث تفتقت عنه عبقرية الغجر بفضل ما أتاحه لهم الترحال - عبر إفريقيا وآسيا وأوروبا - من فرص للاحتكاك بثقافات الشعوب العديدة المتنوعة وعكسوا هذا الغنى والتنوع في ابتكارهم الذي أطلقوا عليه إسم الفلامنكو الجامع للرقص والموسيقى والغناء الذي استوطن المثلث الذي يشمل أقاليم إشبيلية وحزيث وموانئ بويرتو قاديس وبويرتو سانتا ماريا وبويرتو نور بال،

أعلن الفلامنكو عن نفسه في القرن 18 وعلى الرغم من أن العديد من تفاصيل تطوره مفقودة اليوم فان جل الدراسات تشير إلي أن هذا الفن مرتبط بالغجر وبثقافات أخرى تعايشت في المنطقة ومن بينها الثقافة المورسكية ذات الأصول العربية الإسلامية إضافة إلى الثقافة الاسبانية المحلية وتطور بفضل اجتهادات الغجر الذين لم يتخلوا عنه ولا عن لغاتهم وثقافتهم الأصلية خلال ترحالهم عبر ربوع الأندلس وغيرها من البلاد فقد جلبوا موسيقاهم الخاصة لتمتزج مع ما هو قائم في البلاد التي احتضنتهم ومازال الفلامنكو يحتفظ بعلامات تدل على أصوله الشرقية بشكل واضح كاعتماد الحنجرة في الغناء والطابع الشرقي في التأليف الموسيقي الذي يعتمد الهارموني العربي مثلما هو شائع في العزف العربي على العود وغيره من الآلات التي تعطي التون ونصف التون كما أن التشابه القائم بين مقامات الفلامنكو ومقامات الغناء العربي بارز العيان (4).

جذور عربية

تعرضت إسبانيا بحكم موقعها لمؤثرات خارجية عديدة طوال تاريخها كان الفتح العربي أخطرها وأعمقها أثرا فخلال قرابة ثمانية قرون منذ العام 711م حتى 1792م تغلغل التأثير الإسلامي العربي في إسبانيا وأسفر هذا الاحتكاك بين الحضارتين عن تطعيم عميق للحياة الإسبانية في جوانبها المادية والمعنوية وبلغت أعلى مراتبها في فنون الموسيقى فقد جلب العرب معهم ألحانا ومقامات وإيقاعات وآلات موسيقاهم من الشرق وحمل موسيقاهم الذين توافدوا على الأندلس وعلى رأسهم زرياب - أفضل تقاليد الموسيقى والغناء العربي في الدولتين الأموية والعباسية وأنبتوا هذه التقاليد في بيئة الأندلس مضيفين إليها من وحي البيئة الجديدة ما أثراها بطابع أندلسي وقد أنشأ زرياب في قرطبة مدرسة نشرت الموسيقى والغناء العربي كأقدم مناهج لتعليم الغناء والموسيقى والرقص وعروض الشعر في العالم(5) ولا ندري هل كانت هناك صلة بين مدرسته القديمة ومدارس الغناء المتقدمة الحديثة في إسبانيا (منذ ما نويل جارينثيا وأبنائه) بغنائياتها الحديثة التي أخرجتها في عصرنا الحاضر ويرى الباحث اللبناني أحمد فرحات أن غنائيات الفلامنكو الدرامية تذكرك بالنواح أو الغناء العربي السعيد لا فرق فتتذكر زرياب وكيف عمت مدرسته عموم الأرجاء الأندلسية أصداؤها تتردد حتي اليوم متجسدة بالطبع في ظاهرة الفلامنكو ويرى بعض الباحثين الموسيقيين الإسبان وفي طليعتهم الشاعر القادشي الأندلسي (فيرنانا وكينيوس) المصاب بعدوى الفلامنكو كما يقول - كان قد توصل بعد أبحاث معمقة في أصول الفلامنكو وأنواع أغانيه إلى أن جذور هذا الفولكلور ترجع إلى العهود العربية في الأندلس وقد جاء ذلك في الكتابين اللذين ألفهما عن الفلامنكو وهما : « عن قادش وأغانيها) و«الفلامنكو حياة وموت « كما أن مدرسة شيخ المستعربين الإسبان غارثياغوميث - أستاذ اللغة العربية في جامعة غرناطة سابقا - كانت قد انخرطت عام 1923م إضافة للموسيقي الاسباني ما نويل دي فاريا والشاعر الكبير فريد ريكو غارسيا لوركا في أبحاث عن الجذور الأولى لهذا النوع من الفولكلور الغنائي الموسيقي فتوصلت جهود الجميع إلي نتيجة واحدة هي أن أصل هذا الفن عربي أندلسي عماده النجوى والشكوى إضافة إلى الفرح واللهو السعيد(6).

 

 ويعتبر «الغناء العميق» غناء فولكلوريا يعكس الجانب المأساوي للحياة ويمتاز بطابعة العميق وألحانه المزخرفة بما يوحي بالأثر العربي ويلاحظ أن في جنوب إسبانيا زخرا فياضا من الغناء والرقص الفولكلوري الذي يحمل في طياته آثارا عربية مركزة في المقامات والأبعاد في الإيقاعات المركبة وفي طريقة إصدار الصوت الغناء (كانتي خوندو) Cante Hondo تم تفرع عنه نوع أخف هو غناء الفلامنكو Flamenco إلي الانفعالي المنمق حيث قدم الغجر Gypsies  القرن 15 وأثروا على موسيقاها بدورهم فغزوا طابع الغناء العميق بأسلوبهم  الجامع المبالغ فتفرع عنه غناء الفلامنكو والذي تغلب فيه الايقاعات العرجاء (الخماسية والسباعية) وتحفل ألحانه بالزخارف وتستخدم فيه المقامات ذات الأبعاد الأصغر من أبعاد السلم الأوروبي المألوف ولابد هنا أن نشير إلى ثراء الرقص الشعبي الإسباني ثراء لا مثيل له ولعل من أشهر الرقصات البوليرو والفاروكا Facucca والهابانيرا والخوتا Jota  التي تختلف تفاصيلها من إقليم لآخر ولقد أضافت هذه الرقصات بعدا ايقاعيا قيما لتراثها الفولكلوري الضخم والذي نهل منه مؤلفوها القوميون فأبدعوا موسيقاهم العميقة الارتباط بالفولكلور(7)

 

ويرجع بعض المؤرخين أصل الفلامنكو إلى الحضارات الايبيرية القديمة لكن تطور على يد الغجر وتأثر بمزيج من موسيقى المسلمين واليهود وولد من تعبير أناس مضطهدون بسبب ملك اسبانيا عام 1492م الكاثوليكي الديانة فريدناندو الملكة ايزابيلا بعد أن أصدر مرسوما أن كل شخص يعيش في مملكته لابد أن يغير ديانته للمسيحية الكاثوليكية وشمل الغجر واليهود والمسلمين ويعتقد أنه بسبب ذلك تجمعت هذه المجموعات العرقية المختلفة لمساعدة بعضهم لبعض ومن هذا الخليط من الثقافات ولدت فنون الفلامنكو وكانت غنائيات تتميز بالحزن والاكتئاب كتعبير عن الظلم الاجتماعي الواقعي ومشاق الحياة والبؤس العام ويدعي الغجر أنهم أساس هذا الفن لكن الحقيقة الجديرة بالذكر أنهم لعبوا دورا هاما فيه لكن لا يمكن أن نغفل تأثير الموسيقى العربية الشعبية والرقصات الأندلسية في فنون الفلامنكو(8) تأثر الفلامنكو كثيرا بالإيقاع الشرقي البيزنطي والأغنية الأندليسة البدائية والأغنية الموروثة ويظهر ذلك خاصة في فولكلور عدة قرى بالقرب من غرناطة والتي كان يسكنها الموريسكيون وهذا النوع من الغنائيات يدل على مدى تأثر الفلامنكو بالأغنية العربية والهندسية القديمة ومدى التشابه الكبير بين الأغنية الأندليسة والفلامنكو كما أن غنائيات الفلامنكو كلها وخاصة التي تلقى في عيد ميلاد المسيح هي زناتية شمال إفريقية في الصوت والإلقاء والإنفعال العاطفي ولا شك أن الموريسكيين هم الذين ابتدعوا هذا النوع تضرعا واستعطافا للكنيسة ومحاكم التفتيش كما تظهر الجذور العربية للفلامنكو في طريقة الغناء من الحنجرة وفي جيتار الفلامنكو وتأثره بالعود العربي

ولقد اختلف الباحثون والمؤرخون في تأصيل تسمية الفلامنكو فهناك من ينسبها إلى طائر الفلامنكو الوردي الراقص المهاجر وآخرون أرجعوها للكلمة العربية « فلاح منكوب « أو « فلاح منكم» وطبقا لبلاس انفانتي يرجع « فلاح منغو « إلى « فلاح من غير أرض وهم الفلاحون الموريسكيون الذين اضطهدوا وأصبحوا بدون أرض فاندمجوا مع العجز وأسسوا الفلامنكو كمظهر من مظاهر الألم التي يشعر بها الناس بعد إبادة ثقافتهم وهناك بحوث عديدة تثبت أن الفلامنكو يعود تسميتها إلي « فلاح منكو « وبالتالي « فلاح منكم « وجد أيضا في بحوث عن أصل موسيقي الفلامنكو (9) بأن الكلمة التي تشتهر بلفظها في الفلامنكو « اوللية» وهي كلمة تشتهر بالاسبانية والمكسيكية وغيرها عند العزف على موسيقى الفلامنكو (10)

ومثل هذه الصرخات ole التي يرددها الجمهور والمغنون عند أداء غنائيات الفلامنكو اليوم وهي تشبه كلمة الله كما يعتقد الجميع لاسيما أن التحول من العربية للاسبانية قد يؤدي لذلك ولكن هناك غنائيات أخرى أندلسية تسمى بموشحات «العالم» كأسلوب عروضي وقتل كلمة «اوللية» ظهرت كلمة «عالم» صارت (olema) ثم إن صرخة «علم» تؤدي حتما لاختفاء الميم بنبرة الصرخة فوق اللام فتصير بدلا من Olema فقط Ole (11). وهناك فريق من المؤرخين يرى أن تسمية الفلامنكو تعود للغناء الغريغور ياني حيث كان صوت العازف المنفرد (صولو) يسمى فلامنكو وهناك دارسون آخرون يرجعون التسمية لاغراط الغجر في الجيش الفلامانكي ومشاركته اياه الحرب نظير الحصول على اعتراف بحقوق المواطنة ومنها انتقل الإسم وغير ذلك من الفرضيات البحثية والتاريخية والتي يصعب التحقق منها وحسمها لغياب القرائن القوية فالتأثيرات الثقافية في فن الفلامنكو عديدة وتنتمي لمناطق مختلفة كشمال إفريقيا وجنوب أوروبا والشرق الأدني والأقصى (12).

العصر الذهبي

يرفع فن الفلامنكو رأس إسبانيا عاليا في سماء الموسيقى والأداء الحركي لم يحظ بالاعتراف إلا في أواخر ق 20 بعدما بدا بسيطا كفن وضيع لارتباطه بالغجر الأسفل ترتيبا في الطبقة الاجتماعية وانطلاقا من عام 1860م خطا هذا الفن أولى خطواته نحو الانتشار خارج المثلث الأندلسي الذي استوطنه الغجر ليعم حواضر ومدن إسبانيا الكبرى كمدريد وبرشلونة وابتداء من عام 1910م شهد الفلامنكو فترة زاهرة من حياته باجتياحه المسارح باستعراضات فنية مذهلة يكتشف فيها العالم منجما غنيا من المتعة الفنية الراقية والنبيلة المؤثرة مما دعا محترفي الفلامنكو لبحث سبل تطويره وتجديده وتنويع أنماطه وطرق أدائه ليتضمن الأغاني الحزينة وأخرى ذات الطابع السعيد ويؤدى بشكل فردي أو جماعي بالقيثارة أو البيانو أو آلات أخرى تم تطور نوع جديد (نويفو فلامنكو) أي الفلامنكو الجديد بعد مزج الفلامنكو الأصيل بفنون كالجاز والبالية والرقص الحديث وغيرها وابتداء من خمسينات القرن الماضي شق الفلامنكو طريقه للغرب وعم انتشاره عالميا ليحتل مكانته بجانب أنماط الموسيقى التقليدية والغنائيات الراقية وفنون الأداء الحركي وخلال العصر الذهبي (1896 - 1910م) وضعت فنون الفلامنكو في شكلها النهائي بالمقاهي والمسارح وارتفعت رقصاته إلى آفاق جديدة فأصبحت وسيلة جذب رئيسية وفي الفترة من (1910 - 1955م) أصبحت عروض الفلامنكو أكثر تنظيما في معظم أنحاء العالم (13).

ولثراء موسيقى الفلامنكو أعد لها الباحثون شجرة جنييا لوجية بفروعها الكثيرة التي تعبر كل منها عن غنائيات معينة مستقلة بشكلها ومضمونها ووظيفتها وطريقة أدائها وتضم عشرات الأنماط الموسيقية التي تحمل أسماء عامة وتعرف من خلال بنائها الهارموني وخصائص لحنية وايقاعية ولكل قالب طابعه الخاص والعديد منها تلوين موسيقي محلي لأشكال موسيقية متشابهة أصلا. عام 1954 ظهرت أول انطولوجيا للفلامنكو وبفضل المجهودات الحثيثة لمؤرخي هذا الفن وضعت شجرة جينيالوجية للفلامنكو قسم فيها الباحثون الفلامنكو لأغاني غجرية الأصل (العميقة) وأغاني أندلسية الأصل (الأغاني الوسيطة) intermedio  ثم الأغاني الخفيفة cante chico هذه التصنيفات ظلت موضوع نقد وملاحظات وتعليقات جادة ومهمة وخصبة أهم جذوع شجرة الفلامنكو الغناء العميق cante jondo الذي يتفرع عنه سيغيرياس كرقصة قديمة وصولياريس كغناء راقصي ينقسم بدوره لرقصة مساوقة بغناء تسمى اليغريا (الفرح) ورقصة مصحوبة بعزف آلة القيثارة وحدها غالبا وتسمى بوليريا وهناك التانجو أما جذع الاغاني الخفيفة فيضم غنائيات أهمها : السيفيانا كما يضم نوعا آخر من التانجو الخفيف الراقص وترتبط كل رقصة بجملة من التعبيرات والمعاني والمشاعر التي تثيرها في المشاهد فاليغريا يجب أن يعبر فيه جسد الراقصة عن الفرح الذي يغمره وعن فوران الشباب والحيوية ولطافة الحياة وطاقتها المتجددة أما التانجو فيجب أن يشيع في الفضاء دفء الأنوثة وعطرها الفياض أما (صوليا بوليريا) فرقصة مطبوعة بمسحة من الحزن والشجن تعبر راقصتها عن الاستغراق والتأمل الباطني العميق واذا كان الجسم يعبر عن معاناة القلب فان العين ينبغي لها أن تبتسم وتتحدى بإصرار الآلام وتسخر منها، وهناك نوع مهم من الفلامنكو (فلامنكو الذهاب والاياب) ويتعلق بأغاني حملها الإسبان معهم إلى أمريكا اللاتينية ثم عادت لإسبانيا بحلة جديدة بعد أن تطورت نذكر منها : (لا ميلونكا) وهي رقصة ارجنتييته) و(لاكولومبيانا) من كولومبيا و(لا بانيرا) وهي عبارة عن غنائيات لم تعد تغنى في إسبانيا لكن لا تزال تغنى في أمريكا اللاتينية.

ثلاثي الإبداع

يشمل الفلامنكو ثلاثة عناصر فنية هي :- الغناء cante والرقص baile وعزف الجيتار Guittarra  أو القيتارة بالإضافة إلي جماعة palmas للتصفيق اليدوي : الغناء هو مركز مجموعة الفلامنكو وأهم مكونات الفلامنكو ويتميز بالنغمات الحزينة المأساوية والصرخات التي تشبه العويل والتي ينبغي على الراقص أن يبذل قصارى جهده بجسده وأطرافه وحركاتهما في سبيل ترجمة الكلمات والمشاعر والمعاني التي يعبر عنها المغني. المكون الثاني هو القيثارة أو الجيتار ففي بداية ظهور الفلامنكو كان المغني هو أساس العرض الفني وبمرور الزمن فرضت القيثارة نفسها من خلال موهبة وبراعة العازفين الذين أدخلوا على فنون الفلامنكو الكثير من التقينات الموسيقية المتميزة ويؤدي العازف دورا مهما في توثيق عرى التواصل بين المغني والراقص وتحقيق الانسجام والهارموني والتناغم.المكون الإبداعي الثالث هو الرقص الذي يجسد المشاعر والعواطف التي تعبر عنها الأغنية بالحركات والخطوات وهو المتحكم في سرعة إيقاع الأغنية من خلال سرعة وحركة القدمين والجسم كله وهو مصدر مهم لموسيقى إضافية ناشئة عن حركة المغني وعازف الجيتار يسعيان دوما لاقتفاء خطوات ايقاعاته وحركاته لذلك يشترط في الراقصة أن تكون موسيقية بارعة بجانب لياقتها البدنية التي تمكنها من إتقان الحركات وضرب الأرض بقدميها برشاقة وقوة معبرتين وسرعة خاطفة ومضبوطة وذات دلالة محددة وتحرك يديها وأصابعها وجسدها بليونة وانسيابية متناهية، ويشكل المصفقون عنصرا مهما في هذا الفن فالتصفيق الملازم للفلامنكو آلية ايقاعية مرافقة معقدة وذات أهمية قصوى له قوانين دقيقة يجب الالتزام بها فهو تعبير إيقاعي للكلمات والنوتات والمشاعر ووظيفة المصفقين هي تحفيز الراقص وتقديم الدعم له بتحديد النغم وضبطه عبر تصفيقات متابعة ومتسارعة.

ويترجم الغناء عناء ومكابدات الغجر والفقراء وهذا ما جعله يكتسي مسحة حزن تميزه، فالغناء العميق يجسد المحن والتمزق والمكابدات التي يئن تحت وطأتها الغجر والكلمات الدالة على الحزن في المعجم الفلامنكي كثيرة مقابل قلة عبارات الفرح وتعبير وجه المغني وحركات يديه تترجم بقوة العناء والمكابدة اللذين يتغنى بهما كثيرا ويعتبر أداء الفنان (كاما رو ندي لا ايسلا) خير مثال على ذلك، ويدين مغنو الفلامنكو لعدد من الشعراء المبدعين ساهموا في انتشار ونجاح الفلامنكو (14).أهم هؤلاء الشعراء (فريد يريكو غارسيا لوركا) (1899 - 1936م) حيث يقول إن ميزات وخصائص الفلامنكو ذاتها نجدها في بعض غنائيات الأندلس التي ما زالت تحتفظ بشبه كبير بالموسيقي التي تعرف الآن بالمغرب والجزائر وتونس بهذا الإسم المؤثر في قلب كل غرناطي ألا وهو موسيقي غرناطة (15).

 ولقد حافظ (لوركا) في إبداعاته على التراث الموسيقي الاندلسي التقليدي منذ تشربه صبيا لغنائياته من شفاه الخدم الذين عاشرهم بمنزله وإلى أن قام عام 1922م بتعاون مع فنانين آخرين بتأسيس مهرجان الأغنية العميقة بمدينة غرناطة تحت إشرافه وإشراف ما نويل دي فايا كأول مهرجان يعقد الغناء الأندلسي وكان هدفهما هو البرهنة على أن الغناء العميق ليس مجرد إرث أزمنة قديمة بل شيء يفيض بالحيوية والجمال الفني ويتميز الغناء العميق بتقسيمات فرعية لنغمات تقل مدتها الزمنية عن نغمات الموسيقى الغربية لذلك لا تؤدى على آلات موسيقية منهجية وأكثر الآلات مناسبة لها هو الجيتار بكل ما يتمتع به من قدرة تعبيرية بالرغم من أن الألحان الغجرية الأندلسية تزخر بالإمكانات الزخرفية وهي تتشابه في ذلك إلى حد بعيد بالألحان الهندوستية  لأن هذه الامكانات الزخرفية لا تستخدم إلا في لحظات بعينها ويرى (لوركا) أن ألحان (باخ) مثلا دائرية يمكن أن تعزف إلى ملا نهاية في حين يستوعب الشاعر الغجري لي «الغناء العميق» على أن شيئا يتلاشى في اتجاه افقي يفر من أيدينا ليبتعد لآفاق عاطفية جماعية إلى حيث تصبو الروح (16) وكرس لوركا بعد ذلك جهوده للغناء الشعبي الإسباني وبعث الحياة في الغنائيات التراثية ليؤديها أعضاء فرقته الجوالة التي قدمت عروضها ضمن مسرح العرب الجوال كما ألف (لابرابا) وهي نوع من الغنائيات الشعبية ذات الإيقاعات العربية الأصل وبها سيتيح فرصة ذهبية للراغبين في البحث عن قنوات المتجاور والتبادل والتعاون بين الفنين العربي والاسباني وهب المغني (انريكي مورينتي) نفسه للوركا فتغنى بأشعاره بل وخصص له أكثر من ألبوم غنائي رائع والشاعر (خوان رامون خمينيث) المعاصر للوركا الذي لمع نجمه كشاعر ناضج منذ عام 1916م بعد نشر أول إبداعاته الشعرية الرومانسية بمسحتها الحزينة الناتجة عن الأثر الذي خلفه في نفس الشاعر منذ ريعان شبابه فقدانه لوالده فأبدع قصائد رقيقة صدح بها مغنو الفلامنكو، وكذلك الشاعر (ميكيل هيرنا نديس كينير) من ألمع النجوم في سماء الشعر والدراما الإسبانية فعلى الرغم من تركه الدراسة مبكرا وتفرغه للعمل الزراعي لمساعدة والده على مواجهة أعباء الحياة فقد حرص على تكوين نفسه ورعاية موهبته الأدبية وأتاحت له أسفاره لمدريد فرص اللقاء بين شعراء عصره الكبار كلوركا ونيرودا والبرتي الذين أثروا فيه وحفزوه على الكتابة المبدعة قضى شابا في أوائل العقد الثالث من عمره في زنزانة خلال الحرب الأهلية الإسبانية بعدما خلف أشعارا قوية تتغنى بالمحبة وتنشد العدالة والسلام وتصور مآسي الحروب والموت تغنى بأشعاره (انريكي مورينتي)       و(باكو ايبانيز) وقبل لوركا صرح الغجر بقصائد (انطونيوما تشادو) الرائعة والى جانب لوركا تغنوا بقصائد نيرودا الملتهبة وعموما فالأشعار التي يتغنى بها الفلامنكو تتميز بتنوع موضوعاتها وإيقاعاتها وأسالبيها وهي غالبا تعبر عن رؤى إنسانية عميقة تترجم مشاعر الألم والعشق والانتماء التي تؤرق الإنسان وتتصف بحضور غنائيات شفافة فالحنين يتحول لحزن وقتامة نلامسهما ينسكبان في غنائية مرهفة تلتقي مع الغنائية التقليدية من التراث الشعري  الشفوي الإسباني الذي يستمد أصوله من الإرث العربي الأندلسي قبل شروع المغني في تقديم وصلته يتهيأ بأداء الترانيم وهي مقاطع صوتية لا تحمل أي معنى لغوي محدد وهي Hay او Lalis لضبط الإيقاع اللحني وهي امتدادات لحنية لا علاقة لها بالنظم يرددها المغني لضبط الجرس والموسيقى لتمهيد التواصل والتهيؤ النفسي للحاضرين بقصد الانضباط للسماع ثم يشرع في الأغنية بمدخل يتلو فيه بيتين من القصيدة التي ترددها الكورال  بإيقاع خفيف كإعلان للنهاية بشكل لا يصدم المستمعين لينتهي بأداء يميزه يكون بمنزلة توقيع أو بصمة خاصة وأول الموضوعات المغناة الحب يليه المرأة والموت والألم والوحدة ومرور الزمن ووراء كل هذه الموضوعات قنوات لتمرير خطاب النقد السياسي والتعبير عن المطالب الاجتماعية والاقتصادية ولو بطريقة غير مباشرة وقد اختار هذا السبيل النضالي سياسيو المعارضة الذين غنوا الفلامنكو ومنهم من اختار المنفى.

تكنيك الرقصات

فن الفلامنكو يعكس بجلاء تقاليد وأعراف التنظيم الاجتماعي الغجري الذي يحتل فيه الذكور المكانة البارزة بينما تحتجب المرأة وراء أدوارها التقليدية ولكن في حفل الرقص وتبدو الطقوس مخالفة لهذا العرف متحررة منه فبداية الرقصة تكرس بشكل قوي هيمنة النساء وتحكمهن في حلبته بعد ذلك يلتحق الرجال بالحلبة بشكل تدريجي ورقص النساء يستحث المغني على التفنن في تلاوة قصائد الغزل التي تتغنى بجمال وأنوثة الراقصة حيث يتيح حفل الرقص للغجريات فرصا كبيرة ومهمة لتغيير وضعهن الاجتماعي تلبس الراقصة لباسا زاهيا ملونا عريضا فضفاضا على غرار لباس الغجر بينما يلبس الراقص قميصا ضيقا ملونا أو أبيض وسروالا أسود ضيقا أيضا وينتعل الذكور والإناث أحذية قوية تحدث فرقعات مسموعة خلال ضرب الأرض بها وكان سلفهم يلبسون أحذية ذات كعوب عالية لإحداث الصوت القوي المسموع ويضعون على رؤوسهم قبعات تقليدية لم يعد يستسيغها الراقصون ولا المغنون اليوم وهي تختلف عن الرقص الهادئ المتمايل كالرقص الشرقي أو الكلاسيكي وتعتمد راقصة الفلامنكو في حركاتها على قوتها الجسدية هذا بالإضافة  إلى حركات ذراعيها وقدمها بعنف يترجم الثورة على القيود ويختلف أداء الراقصة عن أداء الراقص ببعض الحركات العنيفة عند الراقص التي تعبر بقوة عن هذا العنف مما يجعل الراقص الماهر يثير الإعجاب على الرغم من مكانته الثانوية في حفل الرقص في ظل مكانة المرأة التي تهيمن عليه تعبر راقصة الفلامنكو في رقصها عن الكبرياء والأنفة من خلال حركة الذراعين والقدمين مترجمة أحاسيسها الداخلية بحركات سريعة وقوية كالتصفيق والضرب بالقدمين والإغناء السريع للجسد وشموخ الهامة في كل الايقاعات وتعتمد الراقصة على حركة الأطراف (الأيدي والأرجل) وهذه الحركة لا تتجه نحو الهدر والرومانسية بقدر ما تتجه نحو التصعيد الحركي أو الدينامية المتنامية التي لا تستجيب لإيقاعات عنيفة في أكثر الأحيان ويوجد نوعان لرقص الفلامنكو أحدهما شعبي والثاني للأداء المسرحي وفي كلا الأسلوبين ينبغي على مؤدي الرقصة أن يرتجل ويضيف أداء شخصيا ليبرز معنى القطعة الموسيقية المصاحبة للرقصة وتشتمل الرقصة على إيقاع ماهر لحركة القدمين وطقطقة الأصابع يصاحبها حركات قوية للذراعين لكنها انسيايبة رشيقة، ويمكن أن يؤدي رقصات الفلامنكو شخص بمفرده أو زوج أو فرقة كبيرة العدد، والراقصون المهرة ينفعلون بروح خماسية وينقلون حماسهم وانفعالهم للمشاهدين وتسهم الأزياء المتنوعة الألوان والضجيج العالي في إضفاء الكثير من الإثارة على تكنيك الأداء الحركي كان يصاحب راقصي الفلامنكو في الأصل التصفيق والغناء والضرب الخفيف بالأقدام لكن أضيف إليها فيما بعد الجيتار والضاجة ويضيف الموسيقيون إيقاعا رتيبا متكررا لكنه متنوع وثري في ذات الوقت (17) ورقص الفلامنكو ارتجالي تلقائي في المرتبة الأولي يعتمد على إحساس الراقص أو الراقصة لذلك لا توجد راقصات فلامنكو شهيرات صغيرات في السن بل أغلبهن أكبر من 30 عام لأن إتقان هذه الرقصة يحتاج للكثير من النضج والخبرة والحسن الفني كما يعتمد إضافة لحركات الذراعين واليدين والقدمين على العنفوان والقوة وشدة الانفعالات والعواطف وتخلق الراقصة أنماطا ايقاعية معقدة بتقنية حركة معقدة بتحرك الأجساد الراقصة في وقت واحد بانسجام على إيقاعات الموسيقى وعلى إيقاعات صوت وحركة الرقص السريعة والعنيفة وشدة الأصوات المنبعثة من ضربات القدمين بالأرض تجعلنا نسأل عن سر تلك القدرة على ضبط ذلك العنف الذي تختزله الحركة، إن العنف هو الذي يغذي رقصة الفلامنكو وهو مادتها والراقصون الرجال أكثر قدرة على تمثيل تلك الحركات الإيقاعية السريعة من الراقصات.وتتحرك الراقصة كالفرس الجامح أما الجسم فنادرا ما يتحرك مقوسا بل يقف مشدود الظهر والكبرياء ليعطي الانحاء بالسمو والشموخ (18).

فالفلامنكو ثقافة جسد وحركة يعبر بها عن جوهر الثقافة الاسبانية وقد تظهر لك الحركة الأولى من الرقصة سمجة ومقتلعة وآلية ولكن ستسري إليك عدوى الانسجام المريع بعد دقائق حينما تكتشف أن الفلامنكو يستند إلى الإيقاع بالأرجل والقوة المحكمة والانسجام المنضبط فتنتقل إليك روح المشاركة الحارة وينتقل الإيقاع إلى دمك قد تبدأ الرقصة براقصة ثم اثنتين فثلاث وأخيرا خمس برقصة شاب راقص في جو دافئ ايقاعيا تتصاعد حرارته للذروة المفعمة بالقوة وهو رقص مرهق يقوم على الحركة السريعة وضرب الأرض بكعب الحذاء من أجل ضبط الإيقاع ثم الانتقال السريع والانحناء والتقدم ثم الدوران والعودة (19).

الغناء يتعالى صادحا تصاحبه موسيقى مشربة بأنغام عربية في الوقت نفسه طقطقات أحذية الراقصات والراقصين تعمل بايقاعات منتظمة مدروسة الوظائف لجهة حركة الأيدي لاسيما أصابع الحسناوات المزودة بالصاجات الخشبية السوداء والأجساد الميساء النحيلة على قوة واقتدار، تشخص العيون للراقصة التي تتأرجح وتسند ظهرها للفراغ الذي ملئ بالشوق والجذب الأنيقين ثم فجاة تتنقض مثل سيف زنبقي يلمع لتعاود الحركة على الإيقاعين : الموسيقي العادي وذاك الإيقاع الآخر الطالع من ضرب قدميها بقوة فتستقيم أمور المشهد في التهاب تصاعدي مثير يقلع بالجنون إلى أقصاه وكل من لا يستطيع أن يلحق بحركة هذا الجنون يستبعد في الفلامنكو لا تعود الراقصة هي نفسها أو جسدها أو حركتها بل تتحول إلى شرفة أسطورية وفجر خصوصي موشى بآلاف الرموز بخاصة عندما يموج خمارها الطويل المطرز بالحزز والورد الاندلسيين وكذلك عندما تنتزع  شالها الجميل وترميه كي يتلون في كل العيسوي أما الراقص فهو كفارس الموت الجميل يتطلع بعينين مكابرتين يدعمهما انضباط الطرق الرصاصي الطالع من إيقاع قدميه إنه فارس يبحث في تاريخه الصعب فلا يلاقي غير  أوهامه ويتذكر أن عليه أن يرقص بعد وبعد حتى أثناء موته الجميل. الراقص مجنون بغسل جسده الكهرماني في الأعماق ويمتلك دائما الشجاعة لإنقاذ نفسه، فارس قوي أحد أعلى الذرى الساطعة غير أنه متعب وحزين،

نقي وفجره بعيد، الراقص لا نهائية قلب مكشوف ومدجن بغضب وديع أية مراهق في الدم والوهم الناضج يلحق بأنموذجه بولع يتماهى فيه ويضحي من أجله، الراقص عملاق من حنين وزعفران عاشق غرناطي لحرية مغلقة يفتحها ساعة يشاء الراقصون والراقصات في مشهد جماعي هم أيضا نجوم من قرنفل وبشارة عربية أندلسية ترتعش برزم ضوئها أو جراحها المنتشرة في أفق الليل، إنهم جبهة من ذهب وورد وزيتون وياسمين ورمان وعوالم ألف سطح وعمق تغنينا بالانتشاء جميعا فلا يمكن تحقيق شيء عظيم إلا في حالة انفعالية من الحب وهذا ما تؤكد عليه رقصات الفلامنكو(20) حتي لقد ألهم فن الفلامنكو الشاعر السوري نزار قباني في ديوانه «الرسم بالكلمات» أثناء سفارته لبلاده بمدريد عاصمة إسبانيا - بالعديد من القصائد والإبداعات الهامة ووفق قاموسه التعبيري المرهف يتحدث عن الوجه الأنثوي لاسبانيا حيث المراوح الهفهافة والعيون السود والنساء اللواتي يعلق فوق شعورهن الورود والعصافير كما يجول بمدن الاندلس وقراها ليرى أن في كل بقعة ما يذكر بالأماكن المشرقية في قصيدته «اللؤلؤ الأسود» والأمر نفسه يتكرر في قصيدته عن الراقصة (دونا ماريا) التي تذكره عيناها ببادية الشام ووجهها بشموس دمشق وأشجار ليمونها أما رقصته الفلامنكو فتعيده إلى تلك الازمنة الخالية حيث كان أجداده القدامى يقيمون للسعادة والفرح مملكة واسعة يودعون فيها أعمارهم التي تهرمت فيقول في قصيدته «بقايا العرب» :

فلامنكو

فلامنكو

وتستيقظ الحانه الغافية

على قهقهات صنوج الخشب

وبحة صوت حزين

يسيل كنافورة من ذهب

وأجلس في زاوية

ألم دموعي

ألم بقايا العرب (21)

وتعتبر (ماريا باخوس) من أكبر مبدعات عالم الفلامنكو المعاصر وتشتهر عروضها بالموهبة الفنية المرموقة وإبداعها بحثا عن أشكال جديدة تعبر من خلالها عن المعنى الحقيقي والعميق لرقصات الفلامنكو، بدأت مشوارها الفني مع فرقة انطونيو جادس المسرحية واشتركت في مسرحيتي « كارمن « و« زفاف دموي « وهما من أهم العلامات في تاريخ الفلامنكو كما قدمهما المخرج كارلوس ساورا في السينما، ولقد تلقت ماريا كراقصة العديد من الجوائز أبرزها الجائزة القومية لتصميم الرقصات عام 1996م والجائزة القومية للرقص 2002م وجائزة ليوني ما سيني 2004م كما اختيرت لتقديم عرضها ضمن الاحتفال بافتتاح قمة حكومات أميركا اللاتينية بمدينة (سالا مانكا) الاسبانية، تقول ماريا باخوس «هناك أشياء كثيرة تربطنا عن راقصات الفلامنكو مع العرب تجعلنا نتواصل وليس هناك أكثر تأثيرا من سماع أصداء نداء المؤذن للصلاة « ويستند عرض « أغاني قبل الحرب « الذي قدمته في مصر لتجربة الحنين لسماع الأغاني القديمة تلك الأصوات التي تحمل الذكريات والمتعة والسلام ولقد ألهمت الأشعار البسيطة ماريا لتصميم هذا العرض الراقص المهدى لذكرى الإسباني الكاتب الراحل / مانويل باثكيت مونتالبان. ومن أشهر راقصات الفلامنكو أيضا (روثيو مولينا) 26 عام، قدمت مؤخرا عرضا عن الفلامنكو المعاصر بعنوان « عندما تطير الحجارة» وذلك في مهرجان الخريف بمدريد وترى رثي وان « العرض في غاية الحساسية والشاعرية في الوقت ذاته يتحدث عن ظهور الجمال وتلاشيه « بدأت « روثيو» المولودة بملقة - الرقص في سن الثالثة ثم التحقت بأكاديمية الرقص بمدريد كما كانت إحدى راقصات فريق الراقصة الشهيرة (ماريا باخوس) الحائزة على العديد من الجوائز العالمية ابتكرت مولينا أسلوبها الخاص في مزيج نادر من الفلامنكو الارتجالي بلمسات من أسلوبها الحديث الخارج عن المألوف المفعم بالجمال الحركي والجسدي (22).ولعل من أشهر أماكن رقصات الفلامنكو اشبيلية تتوفر بها العروض الجيدة على مدار العام وغرناطة حيث تتوفر في كهوف الغجر Sacramonte وسائل ترفيهية راقصة وفي قرطبة تتوفر رقصات شعبية للفلامنكو أما مدريد فهي أفضل مكان لعروض أكثر جودة.

تقنيات العزف

كان لعازفي الجيتار أثر كبير في موسيقي الفلامنكو ومن أشهرهم في العصر الحديث باكو دي لو ثيا Paco de Lucia أفضل عازفي الجيتار ومعروف عالميا والأكثر أصالة في تاريخ الفلامنكو يتمتع بالمجراة وروح المبادرة والإبداع الفني ويمتلك مهارة العزف ويتحكم في تقنياته ولد عام 1947م بدأ العزف ابن سبع سنوات وتعلم أصول الفلامنكو وتقنياته من أخيه الأكبر (رامون دي الخيسيرا) الذي اكتسب شهرة واسعة من مرافقته الموسيقية الفلامنكو ومشاركته ضمن فرقة باليه انطونيو التي قدمت عروضها الرائعة خلال سنوات من 66 إلى 1968م بمسارح إسبانيا ودول كثيرة.ولد أيضا بقرطبة العازف الشهير باكوفرا نشيسكو بينيا بيريث عام 1942م وغادرها إلى لندن صغيرا ومنها لكل العالم حاملا معه موسيقى الفلامنكو عازفا في الحفلات أو قائد عروض الفلامنكو التي أعدها لتقديمها في البلدان المختلفة.

 

 أسس بعد ذلك مهرجان الجيتار الدولي في قرطبة والأكثر أهمية عالميا، في عام 93 فاز (باكو) بجائزة رامون مونتويا لأفضل عازف وهناك آخرون حققوا نجاحا فنيا ونجومية واضحة مثل البروفيسور (مانويل غرنادوس) العازف والمؤلف الموسيقي المحترف الذي أبدع مؤلفات عديدة في علم الفلامنكو ولا يزال أستاذا في كونسيرفتوار برشلونة يدرس آلة الجيتار وعلم الفلامنكو وأيضا العازف (توماتيتو) الذي اكتشفه مغني الفلامنكو الشهير (كامارون دي لا ايسلا) فأصبح رفيقه يصاحبه في حفلاته لخمسة عشر عاما حيث شكلا ثنائيا متميزا في عالم الفلامنكو في انسجام وتفاهم تامين بين الغناء والعزف ولنينو ريكاردو أكبر مجموعة تسجيلات في مصاحبة المغنيين وفي العام 1957م أصبح عضوا في شركة Juanito Valderrama  التي أمضى معها 11 عاما. وهناك قنوات كثيرة تربط موسيقى وغناء الفلامنكو بموسيقى وغناء شعوب كثيرة منها عالمنا العربي. فالفلامنكو يحتوي على ربع التون وعلى الارتحال كما في المقام بخلاف موسيقى أوروبا الغربية التي تخلت عن الارتجال وربع التون منذ القرون الوسطى فالصلة بين المقام والفلامنكو شيء لا يمكن إنكاره فضلا عن المضامين الثقافية الموضوعات غناء الفلامنكو التي تعكس نظرة قريبة من النظرة العربية  إلى الحب والمرأة والعفة والحياء والوفاء للحبيب والحياة والموت والقدر وغير ذلك من الموضوعات كما أن التأثير العربي على الفلامنكو بارز بشدة في المقامات والزخارف المنمقة أو القفلات الخاصة (طريقة إصدار الصوت الغنائي) فهناك أبعاد في الفلامنكو تقترب كثيرا من ثلاثة أرباع الصوت الذي هو خاصية موسيقية عربية كما أن معجم الفلامنكو يضم عبارات مثل Hay وLelis التي تغنى بها فقرات فوكاليز (نغمات بلا كلمات) أشبه بالموال العربي في بدايات عدد من أغاني الفلامنكو كما أتاح التقارب الجغرافي المغربي الإسباني فرصة مهمة لمثقفي الضفتين وفنانيه لأجل التعارف والتبادل الثقافي للتجربة الفنية. فاللغتان اليوميتان الدارجتان على لسان المغاربة والإسبان تتضمنان كثيرا من المشترك اللفظي كما أن الحياة اليومية العمومية والحميمية لا تخلو من مؤثرات وافدة من الثقافة الأخرى وهناك أمثلة عديدة على التناغم الجميل بين موسيقى الفلامنكو والموسيقى العربية والأندلسية ومن هذه التجارب نذكر من إسبانيا الفنانة (لولي دي مونتانا) أول فنانة غنت الفلامنكو بالعربية كما غنى كامرون دي لا ايسلا قصائد لعمر الخيام في شريطه الشهير «أسطورة الوقت» وغنى الإخوان كورو وكارلوس بنيانا قصائد ابن عربي الصوفية أما الشاعر الغرناطي الغجري خوسي مايا فقد اشترك مع الفنان المغربي الراحل عبدالصادق شقارة في البحث عن ايقاعات مشتركة ما زالت تطرب الملايين وأدى خوان بينيا ليبرهانو أغاني رائعة جنبا إلى جنب مع منشدي أوركسترا طنجة للغناء الأندلسي. أما جلال شقارة حفيد عبدالصادق شارك برفقة الراقصة الشهيرة انجيليس كابالدون في أعمال مشتركة في برنامج «شذى الألحان» الذي يؤكد بقوة وجود نقاط تلاقي بين الموسيقى العربية وإيقاعات الفلامنكو الإسبانية قدما أعمالا تمزج بين الفنين لعل أشهرها «حبيب القلب» و« جرحتني» إضافة لمقطوعة Seguiria ويعتني المغني جلال والراقصة كابالدون باختيار القطعة الحزينة من التراث الإسباني لتلائم الشعبيات المغربية الشجية لتناسب مشروعهما «الهجرة السرية» وحاولا فيه من خلال الغنائيات المغربية الإسبانية إرسال إشارات فنية عن خطورة الظاهرة التي تعصف بحياة العديد من الشباب المغامر بالهجرة رغبة في تحسين ظروف المعيشة في إسبانيا فحاز الجائزة الأولى لأحسن إنتاج إسباني عام 2006م كما أحيا عدة حفلات عالمية في دول أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة وأوروبا والمغرب. أما د/ طارق بنزي فمتفرغ في الفلامنكو والجاز والموسيقى العربية، في البداية أنشا مجموعة موسيقية إسمها «الفاتحة» وهي من أوائل المجموعات الموسيقية الشرقية بإسبانيا وفتح ذراعيه معانقا فطاحل وشيوخ فن الفلامنكو أمثال باكو دي لوثيا وايزيكي مورينتي ومانولو سانلوكار اللذين أقبلوا عليه ثقة في كفاءاته الفنية كما التقى طارق بالفنانة الأمريكية جوليا عازفة الجيتار حيث أنشأ برفقتها مجموعة فنية عرفت باسم «مجموعة الأندلس» في نهاية الثمانينات وقد انشأ سهيل السرغني فرقة «قصيدة أندلسية» التي أقامت عروضا في إيطاليا وفرنسا ومصر وفلسطين ولبنان وغيرها ومثلت إسبانيا عام 97 في المهرجان الدولي للموسيقى الأندلسية بالرباط باستخدام العود والقانون والجيتار الإسباني والطبلة والدومبيك وآلات الإيقاع التقليدية التي وازن بينها السرغيني وبما أن صوت مغني الفرقة يتوافق مع الموشح العربي كما في غناء الفلامنكو فقد تولد من كل ذلك صوت ونغم عربيان إسبانيان مع مساهمات من غناء وموسيقى الفلامنكو عكسا حسية وعمق وروحانية  الثقافتين (23).

وللعراق حصة من فنون الفلامنكو فلقد أسس الفنان مازن منصور معهد الترويج لتدريس وتعليم عزف جيتار الفلامنكو بالتعاون مع البروفيسور مانويل كرانادوس (24)

المراجع

1. محمود السيد علي - الموسيقى الشعبية الإسبانية - مجلة إبداع يناير 1992م - الهيئة المصرية العامة للكتاب - ص 170.

2. محمد القاضي - الغجر في إسبانيا إثبات الذات - المجلة العربية - العدد 424 - ص50.

3. المرجع السابق - ص53-54.

4. الزبيد مهداد - الفلامنكو رقص على أنغام القيثارة - جريدة الفنون - العدد 90 - يونيو 2008م - المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت - ص28.

5. محمد محمود فايد - زرياب طائر غرد في الأندلس - مجلة الكويت - وزارة الإعلام الكويتية - ص112.

6. أحمد فرحات - جولة في آخر معاقل العرب في الأندلس - مجلة نزوى العمانية - العدد 32 ص20 وأيضـــــا موقــــع http://www.nizwa.com 

7. د/ سمحة الخولي - القومية في موسيقى القرن العشرين - عالم المعرفة العدد 162 - المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت - ص24.

8. مازن منصور - تاريخ موسيقى الفلامنكو - مجلة الحوار المتمدن الالكترونية -  12 أكتوبر 2004م إعداد / وسام سعد

9. لمزيد من المعلومات ارجع الي موقع قناة الجزيرة الوثائقية الالكتروني.

10. موقع ويكيبديا الموسوعة الالكترونية - رقص الفلامنكو - ar.wikipedia. org 

11. د/ سليمان العطار - دراسة في نشاة الموشحات الأندلسية  مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد - المجلد التاسع والعشرون - مدريد 1997م - بالتعاون مع الأكاديمية الملكية للعلوم والفنون الجميلة ومع المفوضية الاقليمية للمستشارية الثقافية لحكومة الأندلس بقرطبة وجامعة قرطبة ود / رافائيل بنيا ملقيثو - ص132.

12. مقال مترجم من موقع www.spanish-fiestas.com/culture/flamenco

13. مقال مترجم موقع www.centralhome.com/ballroom country/ flamenco  ولمزيد من المعلومات والتفاصيل ارجع لمواقع

‏www.donquijote.org/culture/flamenco

‏http://www.andalucia.com/flamenco/home.htm

14. الزبيد مهداد - مرجع سابق - ص29.

15. عبدالعزيز عبدالجليل - الموسيقا الاندلسية المغربية - عالم المعرفة العدد 129 - سبتمبر 1988م - المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب - الكويت - ص8.

16. محمود السيد علي - مرجع سابق - ص174.

17. رقصة الفلامنكو - منتديات ارابيافورسيرف الالكتروني forum.arabia4serv.com

18. مقال بموقع                                                                                                http://www.ankawa.com/formum/mdexphp?p

19. د/ عبدالله ابراهيم - الرحيل إلي شمس غرناطة - مجلة الدوحة - العدد 6 - أبريل - 2008م المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث بقطر - ص106.

20. أحمد فرحات - مرجع سابق - ص24.

21. شوقي يزيع - بكاء اللمنجات - مجلة الدوحة - العدد 5 - مارس 2008 - ص96.

22. الرقص لغة تواصل - 11/6/2012م - مقال بموقع Arabic.euronews.com 

23. الزبيد مهداد - مرجع سابق - ص31.

24. مرجع سابق - www.ankawa.com

أعداد المجلة