من حكايات الماء الشعبية وطقوسه حكاية قران العجائز، وطقس أم الغيث
العدد 21 - أدب شعبي
} وجعلنا من الماء كلّ شيء حي {
الأنبياء 30
يكاد يكون من اللهو الحديثُ عن علاقة الإنسان بالماء؛ لأن مثل هذا الحديث لا يضيف إلى المعرفة ما تضيفه لحظة عطش، أو شهقة تخمة، لكنّ الحديث عن أدب الماء حديث ماتع مفيد، ولو استقصى الباحثون حضور الماء في الأدب لخرجوا بمدوّنة عظيمة في أدب الماء، سواء أكان ذلك العزيز المفقود، أم كان ذلك الهين الموجود، وسواء أكان ذلك الغامض الغريب، أم كان ذلك الحبيب القريب الذي تتطهّر به الأبدان، والأنفس.
ولسنا ذاهبين في هذه الورقة إلى استقصاء، ولا إلى تدليل على المدلّل عليه مع الأنفاس، في حلّها وترحالها، وفي سكونها وغضبها، وإنما نهدف هنا إلى قراءة في مفهومين من مفاهيم الأدب الشعبي، هما الحكاية الشعبية والطقس الشعبي، وهما مفهومان جديران بالتمييز بينهما، مع الإتيان بالأمثلة الدالة على كل مفهوم.
الحكاية الشعبية
قصة اقران العجايزب نموذجا
مفهوم الحكاية الشعبية وعناصرها:
يمكن القول وفق الموسوعة البريطانية، والموسوعة الألمانية، وغيرها من الموسوعات التي تطرقت لتعريف الحكاية الشعبية، إنها حكاية تخص الماضي، تنقل مشافهة، وتتوارثها الأجيال، وليس لها مؤلف واحد، كما أن مؤلفها الأول غير معروف، وهو ما يمنح الراوي الذي يقوم بأدائها هامشا من الحرية في التصرف، والتعبير، وإدخال محسّنات تنبيهية أو تشويقية على الحكاية مع حفاظه على القصة/ الحكاية الأصلية.
ويجمع الدارسون على أن الحكاية من تأليف الشعب، أي أنّ مصدرها ليس واحدا بعينه، وإن كان أول من سردها ذلك الواحد الفرد، لأنه وإن كان مؤلفها، في الأصل، شخصا بعينه، فإنما يكون قد ألفها استجابة لقلق مجتمعي، أو شعبي تجاه ظاهرة ما، أو رغبة شعبية في وضع قوانين، أو تدوين معارف خاصة، أو نقل تجربة إلى الأجيال اللاحقة، وهو ما يجعلها دائما تشير إلى الماضي، ولا تتحدث عن شيء يحدث الآن، أو سيحدث في المستقبل، كما أن لغتها هي اللغة الدارجة في المكان الذي تروى فيه، فقد تروى في الإقليم الواحد بطرق مختلفة، وقد يرويها راويان في مكان واحد بطريقتين مختلفتين.
والأغلب أن عناصرها ثابتة، فهي: حدث وقع في الماضي، فيه بطل، هذا البطل يسير نحو غاية، لكنه يتعرض لمعيقات، ثم يأتي الفرج من الطبيعة، أو من مساعد/ منقذ، فيساعده على الوصول إلى الغاية.
أما حضور الزمان في الحكاية الشعبية، فهو زمن مطلق، في الماضي، وهو ما يمنحها القوة في الوصول إلى الغاية المنشودة.
وزمن القص فيها تسلسلي، سببي، ليس فيه أي تشويش، وكل حدث يقود إلى الآخر.
كما أن المكان يأخذ أهميته في الحكاية الشعبية إذا كان من أهدافها التنبيه على المكان أو التحذير منه، وهو ليس المكان الذي نعرفه في الكتابة/ الرواية والقصة بمفهومها الفني.
الحياة التي تظهر في الحكاية الشعبية ثابتة وقوانينها ثابتة، وهو ما يترتب عليه كونها ناقلة للتجربة الإنسانية التي ينبغي أن تحفظها الأجيال، فدائما في الحكاية الشعبية هناك حل، ودائما ينتصر الخير، ودائما يكون مصير المتسرع الفشل.
والحياة، أيضا، في الحكاية الشعبية مقسومة بين الخير والشر، هكذا، ليس هناك أي لبس، أو منطقة وسطى بينهما.
هذه الملاحظات نلخّص بها المفهوم، وبناء الحكاية الشعبية، مع الاختلاف بين حكاية وحكاية في التفاصيل، لكنّنا سنقف هنا على حكاية تدور على الألسنة، وتأخذ أهميّتها من تكرارها على الألسنة كلّما حان زمنها.
حكاية قران العجايز
أقول: هناك حكايات لا تنطبق عليها الخطاطة الشكلية السابقة، وقد تسير على غير ذلك وفق الغاية من الحكاية، ونأخذ مثلا الحكاية الآتية التي يعرفها المجتمع الأردني والعربي إلى حد كبير، فقد قسم المخيال الشعبي الزمن وفق خبراته معه، وسمى بعض الشهور أو الأيام بتسميات تحفظ له معها الخبرات التي تحصل عليها منها، ومن ذلك مفهوم قران العجايز، وهو المتعارف عليه زمنيا بآخر أربعة أيام من شباط، وأول ثلاثة أيام من آذار.
الحكاية التي تعالج هذا المفوم، وإن كانت مختلفة من مكان إلى مكان، لكنه اختلاف لا يمس جوهر القصة/ الحكاية، تقول ما يأتي:
كانت هناك عجوز قد ابتنت خيمتها كعادة البدو الرحل بالقرب من أحد الأودية في فصل الشتاء، وقد ملّت العجوز الشتاء، والأيام الطويلة التي تحشر فيها هي وأغنامها في الخيمة، وعندما حلت الأربعة الأواخر من شهر شباط فرحت العجوز، وراحت تغني غناء تذم فيه شباطا وتعبر عن فرحتها فقالت:
راح شباط وشرّ شباط
ودسّينا في ا...ب مخاط
والمخاط: الإبرة الطويلة التي تخاط بها بيوت الشعر....
وتقول الحكاية إن شباطا عندما سمع العجوز تغني وتشتمه غضب غضبا شديدا، وانتحى بشهر آذار لكي يعطيه ثلاثة أيام منه ينتقم فيها من العجوز على شتمها له.
وقد غنّى شباط:
آذار يا بن عمّي ثلاثتك مع أربعي
خلّي العجيّز مع الوادي تقرعي..
أي: أنه يطلب من آذار ثلاثة أيام يضيفها إلى الأربعة الباقية منه، حتى ينتقم من العجوز... فينزل مطر كثير يسيّلها مع الواد...
وتقول الحكاية إن آذار استجاب لطلب ابن عمه، ونزل مطر كثير فاض معه الوادي وجرف العجوز وأغنامها،...
وتقول الحكاية إن العجوز عندما جرفها السيل وأغنامها كانت تنظر إلى أغنامها وهي منجرفة بالماء وتغني بحسرة:
درّجهن يا سيل على مهلهن معاشير ولا يرمّن بهمهن
أي: ترفق يا سيل بالأغنام لأنها حوامل، خوفا من أن يطرحن أجنتهن...
وهكذا تنتهي القصة:
وبقراءتنا للقصة نجد أنّها ثبتت في الخيال والثقافة الشعبية خبرة الناس مع أشهر الشتاء، فشهر شباط لا يؤمن حتى ينتهي ويدخل آذار، حتى إن نهاية شهر شباط هي التي لا تؤتمن، وعلى البدو أن يبتعدوا في هذه الأيام عن الاقتراب من الأودية والسهول... ومن خلال هذه القصة تم اختراع اسم للأربعة الأواخر من شباط والثلاثة الأوائل من آذار، فسميت هذه الأيام بـ قران العجايز.... والقران يعني الشبك، والاقتران بين أيام من شباط وأيام من آذار.
ومن قراءتنا/ سماعنا القصة نرى أن ليس مطلقا مجيء القصة على وتيرة/ شكل وترتيب واحد، فهذه القصة نرى البطل فيها ينتقل من السعادة إلى الشقاء أو الفناء، والبطل الحقيقي هو شهر شباط الذي تعرض للذم، فجاء المساعد/ شهر آذار ومنحه بضعة أيام يستطيع بها أن يقضي على الخصم.
ليس في القصة صراع بين الخير والشر، والصراع هنا بين العلم والجهل، فالعجوز جاهلة، وجهلها هو الذي أوردها التهلكة، ولو كانت تعرف المواقيت جيدا لما أساءت لشباط.
قصر الحكاية: كثيرا ما تكون الحكاية الشعبية طويلة، وفيها الكثير من المفاجآت والتعقيدات، لكنّ هذه القصة جاءت قصيرة، وبقليل من التأمل ندرك أن مصدر القصة هو مصدر قصرها، فمصدر القصة بدوي، والبدوي يميل إلى الاختصار، لأن حياته تميل إلى الاختصار، فهي حياة تنقل وترحال مستمر في تتبع مناطق الدفء في الشتاء، وأماكن العشب والكلأ والماء في بقية الفصول.
الطقس الشعبي
نموذج أم الغيث
إذا كانت الحكاية الشعبية تعني القصة، فإن الطقس الشعبي يعني الممارسة، وإذا كانت الحكاية الشعبية تعنى بتفسير الظاهرة، أو التربية ونقل الخبرات، أو التسلية، فإن الطقس الشعبي يختلف من حيث هو في أغلب الأحيان تقليد للظاهرة الطبيعية، أو محاكاة للحلم الجمعي، أو صلاة من أجل حصول شيء، تحدّده الحاجة في بداية الأمر، ثم يتحوّل إلى تقليد كلّما مرّت الحاجة الأساسية التي تأسس لها.
وليس من باب المبالغة القول إن المحاكي الأول، وصانع الطقس، قد اجتهد، حتى يخرج الطقس بشكله الذي تمارسه الجماعة، لكنّ اجتهاده لم يكن ليخرج عن المحاكاة، محاكاة الطبيعة نفسها، أو المحاكاة المعاكسة، أي نقل المعرفة البشرية، والطقس البشري لتطبيقه على الطبيعة، وفي الأول نستشهد بطقوس الماء، أو طلب الماء، حيث تشير عادات الشعوب وطقوسهم في طلب الماء إلى تقليد نزول المطر عند أغلب الشعوب، يضاف إلى هذا التقليد بعض الممارسات التي تجسّر بين الطبيعة والبشر.
أما في الحالة الثانية، المحاكاة المعاكسة، فتقوم على خلع الطقوس والمعارف البشرية على الطبيعة، ومثاله فتاة النيل، أو عروس النيل، التي كانت تقذف في النيل من خلال موكب مهيب، يكون فيه النيل غاضبا، فيقوم الناس بإرضائه بعروس تزفّ إليه لكي يهدأ، أو يفيض، كما أورد ابن عبدالحكم في فتوح مصر، وأيّا كان رأي المحقّقين والعلماء برواية ابن عبدالحكم، فإن نفي الحكاية، لا يعني نفي ما يمكن أن يقود إلى اختراعها، وقد أشار غير باحث، وعالم، إلى أن حكاية ابن عبدالحكم خرافة، لكنّهم لم ينفوا طقسية الاحتفال بالفيضان، وتقديم الهديّة للنيل، وسواء أكان النيل زوجا، والأرض زوجة، أم كان النيل عريسا يبحث عن عروسه أو فتاته، فإن ما يهمّنا هنا هو التقليد المعاكس في طقسية الماء، إذ إن ثمّة هدية، وثمة إيحاء بالعرس، وثمة زفاف، وزينة واحتفال...
ولا ريب في أن مثل هذه الطقوس تتغيّر مع الزمن، ويشوبها تحوير وفق التطورات الاجتماعية، التي تتأثر بدورها بالمؤثرات الطبيعية نفسها، كالطبيعة الجغرافية، ووسائل الإنتاج.
ونقف هنا عند طقسية الاستسقاء، ليس الاستسقاء المعروف وفق الشريعة، وإنما الاستسقاء وفق الطقوس الشعبية التي كانت بعيدة عن الشريعة، والتي شابها كثير من الخلط بين الشريعة، والمترسّب الجمعي للعادات التي سبقت الديانات السماوية.
ونموذجنا هنا هو المتعارف عليه وفق طقوس الاستسقاء بـ (( أم الغيث)).
النسخة الهندية، والنسخة العربية
يرتبط الاستسقاء عند كثير من الشعوب بالمرأة والطفل، ويشكل المسير في طرق القرية أحد الطقوس المشتركة عند كثير من الشعوب في العالم، يقول فريزر في الغصن الذهبي:
((وحين تشتد الحاجة إلى المطر في بونا في الهند يغطي الصبية أحدهم بأوراق الشجر ويطلقون عليه اسمسملك المطرس ويسيرون في شكل موكب يمر بكل بيوت القرية حيث يرش صاحب الدار أو زوجته املك المطرس بالماء ويقدم لهم بعض أصناف الطعام. وبعد أن ينتهي الموكب من زيارة كل بيوت القرية يجرّدون املك المطرس من ردائه النباتي الأخضر ويستمتعون بتناول الطعام الذي جمعوه))
ويتكرر هذا الموكب الاستسقائي عند مختلف الشعوب، وفق فريزر، ولنا أن نذكر هنا أن كلّ الذين كتبوا عن الاستسقاء الشعبي العربي في عهد ما قبل النهضة الحديثة ذكروا هذا الموكب، وإن كان بطرق مختلفة، وقد فصل الباحث أحمد الحسين في هذه الظاهرة، وأجاد إذ ربطها بفضائها الأسطوري، ومتحققها الواقعي، يقول:
اوبداية هذا الطقس أن الرجال يطلبون من النساء إقامة طقس أم الغيث، عندما يطول انقطاع المطر. فتقوم الفتيات بتجهيز هيكل أم الغيث، وهو عبارة عن مغرفة طعام من خشب، تثبّت عليها من جهة الأعلى قطعة خشبية بمثابة الكتف واليدين. ثم يكسى هذا الهيكل بثياب الفتيات، ويزيّن بالحلي الذهبية، والفضية. ويغطى الوجه بقطعة من القماش تسمى اهبريةس فتبدو أم الغيث عندئذ في فتاة، بكامل لباسها، وزينتها.
بعد ذلك تبدأ المرحلة الثانية، حيث ترفع فتاة هيكل أم الغيث، وتطوف به من بيت إلى آخر، ومن ورائها موكب الفتيات، والأطفال الصغار، وهم يردّدون مقاطع من أنشودة أم الغيث بحركات راقصة.
ويقف الموكب أمام كل بيت، فترش ربة البيت الماء على المحتفلات ثم تعطيهنّ شيئاً من القمح أو العدس. وهكذا ينطلق الموكب من جديد إلى بيت آخر، حتى الانتهاء من زيارة البيوت كافة.
وهنا يدخل الطقس في المرحلة الثالثة، حين يجتمع الموكب في ساحة، وتظل أم الغيث مرفوعة، وتطبخ الحبوب في قدر، ثم توزع، وتؤكل كصدقة أو قربان، ويسود عندئذ جو من الاستبشار، ولا يغادر الحاضرون المكان إلى ساعة متأخرة انتظاراً للمطر. فإن هطل الغيث انصرفوا إلى منازلهم، وإلا ّ جرت إعادة مشهد أم الغيث مرة، ومرات حتى يستجيب الله لدعوات الصغار وتوسلاتهم.س
وإلى عهد قريب في جنوب الأردن، قبل النهضة الدينية التي أعادت الاستسقاء إلى قواعده الشرعية التي أقرّها الإسلام كان الاستسقاء يشبه تلك المسيرة المشار إليها أعلاه.
لقد شهدت في طفولتي طقس استسقاء في بلدة المزار الجنوبي، في الأرن، ورأيت، في ما أذكر، النسوة قد تجمّعن، يحملن رداءً باليا، ويسرن في موكب مع الغناء:
يام الغـــيث غيثـينا بلي زريــع راعينا
يا ام الغيث يا دايم بلي زريعنا النايم
...
إلى أن يصلن إلى بيت أحد الأشخاص المعروفين ببساطتهم، وصفاء نواياهم، فيلقين الرداء البالي على البيت ثم يعدن كل واحدة إلى بيتها.
ونستشف من هذه المقارنة، ما يلي:
حضور المرأة وارتباطها بطقس الاستسقاء.
نداء اأم الغيثس وهو نداء قادم ربّما من آفاق المرحلة الأمومية في العبادات الوثنية.
حضور الترتيل، وهو في كل الحالات يرتبط بالمطلق، الإله في السماء، والله.. إذ جاء في حالة الاستسقاء التي أشرنا إليها في بلدة المزار الجنوبي مزيجا من التأنيث والتذكير، فالنداء بأم الغيث، فيه تأنيث، وربّي فيه تذكير، إذ امتزجت الأنوثة بالذكورة في الغناء المصاحب لطقس الاستسقاء، ويفسر هذا أن بقية من مرحلة الأمومة، وما بقي من الإسلام بعد تغييب طويل للوعي الأصولي الإسلامي.
إن مثل هذه المقاربة جديرة بدراسة خاصة، تتناول قوّة وضعف العقائد، وقدرة المخيال الشعبي على إيجاد عقائده، وهي في الأغلب مرتبطة بالطبيعة، كما أن مثل هذه الدراسة يمكن أن تنظر في تأنيث الطبيعة وغرائبها كلما خفتت قوّة الأديان السماوية، أو ضعفت العقائد الفكرية، كأن الإنسان، في المطلق، يمتلك حنينا أزليا إلى أمّ كونية، منها تتفرع الطبيعة، ومنها تتفرّع الأم.
المصادر والمراجع:
-1 ابن عبدالحكم، فتوح مصر، تحقيق عبدالمنعم عامر، الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، ص 205
-2 انظر قراءة نقدية للحكاية/ الخرافة في : نعمات أحمد فؤاد، النيل في الأدب الشعبي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 1997، ط1، ص 169 ذ 180.
-3 جميس فريزر، الغصن الذهبي، ص 268
-4 مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 66 - السنة 17 - كانون الثاني اينايرب 1997 - شعبان 1417