العرس الـبدويّ الأردنيّ - مدخلٌ إلى قراءة العلامات والرموز
العدد 26 - عادات وتقاليد
مدخل تأسيسيّ:
تـُعدُّ ظاهرة الزواج من أهم الظواهر الاجتماعية الـمُهمة في حياة المجتمعات الإنسانية؛ نظراً لدورها في تنظيم المجتمعات والحفاظ على استمرار وجودها وديمومة بقائها. إضافةً إلى كونها تكشف عن أفكار المجتمعات وتعكس عاداتها الشعبيّة الموروثة ومواقفها وتقاليدها الثقافية وتُقدّم تصوراتها ليس فيما يتعلق بالتواصل الاجتماعي فحسب وإنما فيما يرتبطُ بمفاهيمها الوجودية ونظرتها الشاملة للكون(1).
وتختلف مفاهيم الزواج وعاداته بين المجتمعات وهذا يعود إلى اختلاف الفروقات الثقافية والتباينات الحضارية. أما فيما يتعلـَّق بالمجتمع الأردني فيمكن القول: إنَّ المجتمع الأردني يتوافر على عادات مشتركة في موضوع الزواج، لكنَّ هذا الاشتراك يتعلق بالمسائل الكليـَّة وليس الجزئية، أي أنَّ المجتمع الأردني، بمختلف مرجعياته الطبقية والثقافية والدينية، مـُلتزمٌ بالزواج بوصفه نظاماً اجتماعياً (2).
لكنَّ الفروق تظهر عند دراسة كل طبقة على حدة بهدف رصد الفروق والتمايزات الثقافية. وبمعنى آخر فإنَّ المجتمع الأردني يتوافر على عادات وتقاليد تختلف باختلاف الأصول الاجتماعية التي تنحدرُ منها الجماعات والأفراد خاصةً إذا ما علمنا أنَّ المجتمع الأردني يُقسم إلى ثلاث طبقات اجتماعية هي: طبقة البدو، وطبقة الفلاحين، وطبقة الحضر. وسوف يكون لكلِّ طبقة مجموعةٌ من العادات والتقاليد التي تميزها عن الطبقة الأخرى، وهنا تصبح العادات التقاليد رصيداً وجودياً يؤسس حماية لكلِّ طبقة، ودفاعاً عن هويتها وكيانها الثقافي.
ولـمَّـا كان الزواج نشاطاً اجتماعياً مهماً فمن الطبيعي أنْ تقوم كلُّ طبقة بتحديد شكل زواجها وآلياته ومراحله وطرقه الإجرائية. وهذا يعني أنَّ هناك تفاوتاً طبقياً في تنفيذ الزواج وهو تفاوتٌ غالباً ما يعودُ إلى المرجع الثقافي الذي ينضوي تحته الأفراد بحيث يتحكـَّمُ هذا المرجع في سلوكهم وممارساتهم المرتبطة بالزواج وصولاً إلى ترسيخ الأعراف الثقافية التي تفرض الالتزام بها والتـّقيـُّدَ بسـَنـَنها.
وفي هذا السياق يتأسس سؤال هذا البحث وهو: ما هي العلاقات والمحددات الثقافية التي تـُنظـِّمُ العرس البدوي الأردني؟ وما هي دلالات الأشكال والطقوس التي يلتزم البدو بتنفيذها في أعراسهم؟
الـبـدو، الكيان الاجتماعي والتقاليد الـمُتَوارَثة:
يـُقصدُ بالبدو الأردنيين السكان الذي يسكنون البادية والصحارى الأردنية ويعيشون في الخيام وبيوت الشعر التي يصنعونها من شعر الماعز ووبر الإبل. ويعتمدون في معاشهم على رعي الإبل، نظراً لقدرتها على مجابهة نقص الماء واحتمال الصحراء ولما توفره من مصدر اقتصادي مهم حيث يمكن بيع جزء منها بعد توالدها، كما أنها تشكل مصدراً مهماً في الغذاء من خلال لحمها وحليبها، ومصدراً أساسياً في الكساء حيث تصنع الملابس والمفارش والخيام والأغطية. كما يعتمد البدو على تربية الماعز التي لا ترتقي إلى مستوى الإبل؛ لأنها لا تستطيعُ تحمل قساوة الحياة الصحراوية وعدم تحملها نقص الماء الذي يهدد الصحراء وساكنيها. إضافةً إلى اعتمادهم الأصيل على الصيد وهو نشاطٌ يـُبجـِّله البدو ليس لمردوده الغذائي فحسب بل لأنه يرتبط في مـِخـْيَالِهم بالقوة والظفر والـمَنـَعة والرجولة وهي عناصر مهمة في الأعراف البدوية الحقيقية(3).
أما المستوى الاجتماعي، وهو المدخل الوحيد لفهم الزواج البدوي، فيقوم على أساس العشيرة، فالعشيرة هي الوحدة الاجتماعية عند البدو والتي تقوم بتنظيم شؤون أفرادها في مختلف الجوانب. لذلك فإنَّ البدوي يحرص على الإخلاص لعشيرته والولاء لتعاليمها؛ نظراً لما تمنحه له من حماية وامتيازات لا يستطيع تأمينها إنْ هو خرج عليها أو شقَّ عصا طاعتها(4).
وتحرص العشيرة على إرساء قيم التآخي والتماسك والتلاحم بين أفرادها؛ لتحافظ على بنائها الاجتماعي أما البناء الثقافي فيكون من خلال تمسكها بالعادات والتـّقاليد وإلزام أفرادها بها. وتتصف العادات والتقاليد، بشكل عام، بالرسوخ والثبات؛ فهي غيرُ قابلة للمحو أو التبديل(5)، وينطبق هذا الوصف على العادات البدوية التي تمتاز بالتـِّلقائية؛ فهي تمارس ممارسة عمياء تفرض على أفرادها القيام بها دون القدرة عن التساؤل عن مصدر سلطتها المتعاقبة عبر الأجيال. وتؤدي ممارسة العادات التلقائية إلى تحقيق الانسجام الثقافي بين أفراد العشيرة؛ إذ تـُسهـِّلُ لهم الانخراط في الأعراف بيـُسرٍ وسهولةٍ لذلك يكون أفراد العشيرة مطالبين ضمناً بتمثـِّلها والاعتداد بها لتصبح أنماطاً سلوكيةً راسخةً. ليس هذا فحسب بل إنَّ التزام البدوي ابن العشيرة الكامل بعاداته البدوية وتقاليد عشيرته هي عنوان انتمائه ومعيار ولائه للعشيرة. وإذا ما تحققت هذه الغايات تصبحُ التقاليد والعادات سلوكاً جمعياً تحرص العشيرة على تطبيقه تطبيقاً أعمى، لذلك فإنَّ أفراد العشيرة البدو يثورون إذا ما تمَّ التعرض لتقاليدهم فهم لا يحرصون على الالتزام بها واحترامها فحسب وإنما يطالبون الآخرين بعدم الاستهانة بها، وفي هذا المستوى يـُظهرُ البدو حيال عاداتهم وتقاليدهم تعصـُّباً شديداً(6). وإذا كانت التقاليد «ممارسات اجتماعية يكتسبها الفرد من المجتمع الذي تربـّى وعاش فيه»(7)، فإنَّ الأفراد يعملون على حراسة التقاليد بتنفيذها وتطبيقها لتصبحَ أعرافاً ثقافيةً تضبطُ السُّلوك وتنظـِّمُ الممارسات(8) .
العرس البدوي ودوافع الزواج:
تعدُّ البداوةُ مُحدداً ثقافياً يدل على هوية البدو بوصفهم جماعة تتمتع بخصوصية واستقلال ثقافيين. ونتيجة الخصوصية والاستقلال فإنَّ البدو يُقيمون أعراسهم بما ينسجم مع تقاليدهم النابعة من خصوصيتهم التي تُميزهم عن غيرهم من الجماعات الأخرى مثل الفلاحين، والحضر(9).
ويمتاز البدو الأردنيون بالتزامهم الكامل في علاقاتهم الجنسية التي تجد طريقها الوحيد في الزواج الشرعي؛ فالمجتمع البدوي مجتمع محافظ في هذه المسائل ويجد في الزواج وسيلةً لتنظيم الحياة الاجتماعية والحفاظ على دورة التناسل والتوالد اللذين يفاخر بهما البدو، وهو ما يُسمـَّى بالعصبية القبلية التي ترى في التعداد والنِّسالة مظهرًا من مظاهر الحضور الاجتماعي المُفضي إلى تمثيلات في علاقات القوّة والسلطة والانتساب إلى مؤسسات الدولة الأردنية المهمة لا سيّما مؤسسة الجيش. وبهذا المعنى فإنّ الزواج يُحيل بالضرورة في المُخيّلة البدوية على الإنجاب ومتتالياته الرمزية، ولعل في هذا التصوّر ما يُغري بالقول: إنّ الثقافة البدوية قد انتقلت بمفهوم الزواج من البعد المرتبط بالتناسل وهو المفهوم المرتبط بالدفاع عن وجود العشيرة والذود عن هيبتها، وما قد ينجم عن مخاطر التي تهدد وجودها الذي تعززه بالتزواج والتناسل حرصاً على مصالحها ودعماً لبقائها وديمومتها ودفاعاً عن وجودها وامتيازاتها المعيشية إلى المفهوم الرمزيّ المُضمر الذي استدعته علاقات القوة وتوزيع الإنتاج والمشاركة في إنتاج السُّلطة والبقاء في دائرتها. وبعبارة أخرى، فإنّ الزواج يصدر عن رغبة في زيادة رصيد القوة، والعزوة، والكثرة، والغلبة، والمنعة؛ لأنَّ الاعتزاز بعدد رجال العشيرة مصدرُ اعتدادٍ عند العشائر الأردنية التي تُذكي في نفوس أفرادها مفاهيم التفاخر والاعتزاز وتعزز فيهم معاني الفروسية والشرف والشهامة. ويندرج في هذا الجانب البعد الاقتصادي فالبدو يحرصون على الزواج لزيادة القوى الإنتاجية، والأيدي العاملة التي تقوم بالرعي، ونسج بيوت الشعر، وجمع الحطب، والحلب، وصناعة مشتقات الحليب (10) .
والعرسُ البدويُّ الأردنيُّ تقليدٌ اجتماعيٌّ يدل على تآلف أفراد الجماعة وتكاتفها، كما يكشفُ عن اعتزاز الأفراد بتقاليدهم وهو اعتزازٌ تُحرِّضُ عليه الجماعةُ حفاظاً على تماسكها ووحدتها (11) . أما مراحل العرس وطقوسه فتخضعُ لعادات اجتماعية مُستحكمة تمَّ تناقلها جيلاً بعد جيل وأصبحت سلوكاً جماعياً متكرراً ومُتوارثاً (12) .
التـّعارف بين الجنسين:
يمتاز المجتمع البدويّ بكونه مجتمعاً مغلقاً ومفتوحاً في آنٍ واحد؛ فهو يُتيحُ نوعاً مُعيناً من الاختلاط بين الجنسين في جميع المراحل العـُمرية. لكنَّ هذا الاختلاط محكومٌ بأعرافٍ ثقافيةٍ عُرفية تمنع وقوع تجاوزات وانتهاكات تُخلُّ بمنظومة القيم البدوية. ومن الطبيعيّ أنْ يلقى الشابُّ البدويّ إحدى فتيات العشيرة عند عين الماء مثلاً؛ لأنها مكانٌ حيويٌّ يقصده جميع أفراد العشيرة. وطالما أنّ أعمال الرعي وإحضار الماء والحطب يشترك فيها الشباب والفتيات فإنَّ فُرصَ الالتقاء تصبحُ أمراً طبيعياً. وإذا ما حدث إعجابٌ بين أحد الشباب وإحدى الفتيات فإنّ ذلك يكون دافعاً مهماً للتفكير بالزواج منها. وهنا ينبغي التـَّشديد على مسألة مهمة وهي أنَّ البدويَّ تربـَّى على الاعتداد بأصله وأجداده لذلك فإنه لا يقبل إلا بالزواج من فتاةٍ تناظره أصالةً ونسباً. كما أنَّ البدويَّ لا يزوِّجُ ابنته أو أخته إلا لرجل أصيل النسب سيما أنَّ النسبَ من مميزات العرب القدماء التي يحرصُ البدوي على التـَّمسِّكِ بها(13) .
وقد تقوم الأمّ أو الأب باختيار العروس المناسبة لابنهم والقادرة على التعايش معهم وتحمل ظروفهم وطبيعة حياتهم. أما الابن (العريس) فإنه لا يملك إلا الإذعان لرأي والديه خاصة إذا ما كان بالغاً وعاقلاً وقادراً على القيام بمتطلـَّبات الزواج، فالبدويُّ ينتظرُ ساعة الزواج منذ الصغر خاصة أنَّ فكرة الزواج تراوده حيث لا يكفُّ الأهل والأقارب عن ترديد عبارات «بعرسك»، و»بفرحتك» على مسامع أبنائهم منذ صغرهم(14).
وإذا ما اتفق الأهل على اختيار العروس فإنهم يسارعون إلى خطبة الفتاة بإرسال أحد الوجهاء الذي ينبغي أنْ يكونَ مرموقاً وقادراً على تمثيل عائلة العريس(15) . وقد يشترط أهل الفتاة مهلة زمنية لدراسة الطلب وعرضه على إخوتها وأعمامها وأقاربها وإذا كان الخاطب من عشيرة أخرى فإنه لا بدَّ من موافقة شيخ العشيرة(16) .
الجاهة والخطوبة:
يُقصدُ بالجاهة نُخبةٌ من الأشخاص الوجهاء الذي يتمتعون بحضور اجتماعي في العشيرة، وكلما كانت الجاهة أعظم من حيث عدد وجهائها كان ذلك دليلاً على أهمية العريس ومكانة أسرته ومنزلة العروس وأسرتها. وتتوجه الجاهة إلى مضارب أهل العروس بعد حصول الاتفاق المبدئي والموافقة التـّامة بين أسرتي العروس والعريس، وبعد تحديد موعد زمني لاستقبال الجاهة والاستعداد لها؛ ذلك أنّ يوم الجاهة يومٌ عظيمٌ للطرفين، يتم اتفاق الجاهة فيما بينها على أدوار كل شخص فيها، وهدف الجاهة، ولا بدَّ قبل ذلك من اتفاق أهل العريس على أعضاء الجاهة؛ لما في ذلك من قيمة اعتبارية لهم.
ويكون في استقبال الجاهةِ نخبةٌ من أهل العروس وأقاربها، وفي هذه الحالة تتقدم الجاهة حسب الاتفاق الذي تم إبرامه والذي يحدد رئيس الجاهة. وعند ولوج مضارب العروس تسير الجاهة بانتظام كبير؛ لأنّ هذا الانضباط يدلُّ على الهيبة، والـمنعة، والأهمية، وهو من جانب آخر استعراضٌ للقوة والهيبة(17) .
قهوة الجاهة:
تجلس الجاهةُ والمعازيب(18) في خيمة تُعدُّ خصيصاً لهذه المناسبة حيث يحرص المعازيب على إظهار مقتنياتهم الدَّالة على الوجاهة والكرم. وعندما تُقدَّم الجاهة، بعد التعريف برئيسها وقيامه بمجاملة أعضائها من حيث إنهم لا يقلـِّون عنه شأناً ومنزلة، يقدِّم أخو العروس أو أحد أقاربها فنجان الجاهة لرئيسها الذي يضع الفنجان مباشرة دون شربه دلالة على رغبته في طلب شيء. وعادة ما يقول شيخ الجاهة: « نريد نسبكم وقربكم»، ويردُّ والد الفتاة أو جدّها قائلاً: «أبشروا». فيزيد رئيس الجاهة» نريد فلانة (اسم العروس) لفلان (اسم العريس). وهنا يتمهل والد العروس في إعلان موافقته؛ لمشاورة ابنته وزوجته وأقاربه الجالسين، وحتى لا تبدو الأمور كأنها عملٌ مسرحيٌّ، وكي لا تشعر الجاهة أنَّ الأمور جاهزة وأن وجودهم شكليٌّ.
وغالباً ما تكون نتيجة المداولات القبول، فيأتي الرد من والد العروس الذي يقول: « اشربوا قهوتكم، أو: ابشروا باللي جيتوا فيه». وهنا يقوم أحد المعازيب بجمع فناجين القهوة التي لم تـُشرب، وتفريغ ما بها على الأرض؛ لأنها تكون قد أصبحت باردة، والقهوة عند البدو لا تُشربُ إلا وهي ساخنة. ثمَّ تصبُّ لهم القهوة الساخنة من جديد، ويشربونها كإعلان عن تحقيق مطالبهم. ولا بدّ من الإشارة إلى أنَّ القبول يترافق مع التشديد على أنَّه تمّ بناءً على سُنة الله وسُنة رسوله. ثم يتم قراءة الفاتحة قراءة جماعية صامتة(19) .
وتـُمثـِّلُ القهوة في أعراف البدو عدة دلالات؛ فهي مشروب الكرماء والفرسان و«الأجاويد»، وهي مفتاح الكلام، ليس هذا فحسب بل إنَّ للقهوة دلالةً سحريةً في الثقافة البدوية فهي تجلو الهموم وتزيل الأحزان، وتبعث على الفرح والانتشاء، فالقهوة «شيمةٌ وقيمةٌ وواجبٌ»، ومن هنا يمكن فهم وظيفة القهوة عند البدو وفي مناسباتهم تحديداً. إنَّ ربط القهوة، أي تعليق شربها حتى تتم الموافقة على الطلب، هو اختبارٌ لكرم الطرف الآخر؛ لأنه عندما يوافق على السماح له بشرب القهوة يكون قد أعلن موافقته على تلبية طلبه، وكأنَّ السماح بشرب القهوة شهادة نبلٍ يحرص البدوي على نيلها ومنحها للآخرين. أمّا من يرفض طلب الضيوف ولا يُمكـِّنهم من شرب القهوة فيكون، حسب التقاليد البدوية، شخصاً نذلاً لا يعرفُ قيمة مشروب الأجواد والجاهة ولا علم له بأخلاق الرجال وتعاليم البدو الذين طالما قالوا رددوا: «الجاهة الفالحة فنجانها ما يبرد» في دلالة واضحة على وجوب تكريم الجاهة والاحتفاء بها وتلبية مطالبها(20).
وغالباً ما يرافق الجاهة وفدٌ من النساء، مصطحبين معهم عدداً من الذبائح وتوابعها من أجل تحضير الطعام للجاهة وأهل العروس، وتشترك نساء الجاهة ونساء المعازيب بعملية طهو الطعام وتحضيره بعد الموافقة التي يعقبها إطلاق الزغاريد والعيارات النارية الدالة على الفرح والبهجة. أما العريس فيكون حضوره لخدمة جاهته وأنسبائه وحتى يتم تبادل التعارف بينهم، في أنّ العروس تتوارى عن الأنظار وتهرب إلى بيت أحد أقاربها المقربين؛ خجلاً وحياءً، وحتى يزداد الشوق لرؤيتها من قبل العريس وأسرته(21) .
الزواج والمهر:
يقوم الخاطب، أثناء فترة الخطوبة، بزيارة خطيبته وتقديم الهدايا لها. وتسمى هذه الهدايا بـ «البُِّرة» بكسر الباء أو ضمها، وسميت كذلك من البِّر أي المودة والحب والتقدير. وغالباً ما تكون الهدايا في المناسبات كالأعياد مثلاً. وتشمل الهدايا: الملابس، والعطور، والأحذية، والطعام، والمال(22) .
أما المَهر فيـُطلق البدو عليه «الـسـّياق»؛ لأنه ما يسوقه الخاطب إلى خطيبته وأهلها؛ لأنّ المهر، عند البدو، عادة ما يكون من الإبل، أو الخيل، أو الأغنام، أو الماعز التي تُساقُ بالقبض على نواصيها ورقابها. ذلك أنَّ هذه الأشياء أهم من المال النقدي عند البدو؛ لأنها مصدر اقتصادي لا ينضبُ معينه. لكنَّ التغير الذي طرأ على حياة البدو جعلهم يقبلون بالمال النقدي والذهب؛ نظرا لوجوده بين أيديهم وتداولهم به، ولأنَّ مواشيهم قد تناقصت بفعل زيادة أعدادهم، وقد يقبلون بالأرض بعد أنْ تم توطينهم(23).
وقد مرَّ المهر عند البدو بتطورات كبيرة نتيجة تطورات الحياة التي أصبحت تفرض نفسها عليهم فقد أصبح يقتصر على الحلي والمجوهرات، والملابس، والمفارش، والفراش الصوفي، والأغطية الكافية، وأدوات الطعام اللازمة. ويستلم والد العروس مهر ابنته ويتصرف به بطريقة مناسبة وغالباً ما يدفع العريس أو والده المهر بعد جاهة الذبيحة وعلى رؤوس الأشهاد؛ من أجل إظهار غناه وكرمه وتقديره للنسب الجديد(24) .
حفلات العرس والتجهيز له:
إن حفلة العرس وتجهيزها ما هو إلاّ أمرٌ يشير إلى تكاتف أهل العريس وأقاربه من العشيرة، فعليهم أن يهبّوا للمشاركة في تجهيز هذه الحفلة وتقديمها على أحسن وجه ممكن، لأن المشاركة الجماعية تمثّل رصيد الجماعة وقدرتها في البرهنة على تماسكها وتلاحمها فضلا عن أنه دليلٌ على الهيبة التي تسعى العشيرة وتحرص على إبرازها وتمثيلها اجتماعيًّا؛ ذلك أنّ هذه المشاركة تدلّ على احترام النفس والهوية واحترام الناس وما يتضمنه ذلك من تكافل اجتماعي. لذلك فقد قيل (بياض الوجه للجميع)، والتقصير في هذا الأمر هو عيبٌ يظلُّ يلاحق أقارب العريس من عشيرته(25) .
الموسيقى واللباس(26):
لقد ساد في المجتمع البدوي قديماً وجود النساء في مشاركة الرجل بالمسؤولية والتعبير عن رأيها في ما ترغب به من الألبسة، وبعد شراء الألبسة لكلا العروسين والتي تتحدد تبعاً لظروف العريس، وهذا بالنسبة للبدوي شيء مهم، فاللباس لديهم من أهم ما يتداولونه ويتحدثون فيه بين القوم ،وبعد أن كانوا يشترون اللباس ينشغلون بشراء كل ما يلزمهم من حلوى وخاصة في الأفراح والمناسبات السعيدة كالزواج.
وبعد أن يذهب أهل العروس أو العريس إلى السوق لشراء الملابس لاستكمال فرحتهم يذهب معهم اثنان أو ثلاثة من المرافقين لهم لشراء كل ما يلزمهم من اللباس ومن مستلزمات أخرى، فيكون هنالك لبسة مناسبة لكل مرافق أو مرافقة معهم، كما قالوا في أمثالهم المشهورة “من حضر السوق تسوق”، وإذا قصر البدوي في ذلك اعتبر حينها ناقصاً ويعاب عليه من بقية القوم، بمعنى أنه يصبح ذلك واجباً عليه بحكم عاداتهم.
يعد شراء الملابس شيئاً مهماً لكلا العروسين بالإضافة إلى الحلي والزينة والحلويات للأفراح البدوية لأنها تعبر عن فرحتهم، ومن الأشياء التي يتم شراؤها مع الجهاز المناشف والبشاكير واللباس الأبيض الخاص بالعروس، ويشترون للعريس غطاء للرأس وثوباً وعباءةً، كما يشترون بعض الهدايا للعروس كالذهب والملابس والعطور والحلي دليلاً وتعبيراً عن التفاؤل بالزواج . فالجهاز الذي يشمل الملابس والحلي يعدّ داعياً للفخر والاعتزاز.
إن الجهاز باللون الأبيض الذي يتم شراؤه يعبر عن الأمل والتفاؤل بالصفاء وبياض العرض سواء للعريس أم للعروس، أما اللون الأخضر فهو دليل على الخير والبركة التي تحل بديار العريس على وجه العروس ، بحيث يتم شراء جميع الملابس للعروس كاملةً من عباءة أو سروال أو قد يكون قناعاً أو ملابس تغطي بها عورتها وهذا واضح من خلال الألبسة التي كانت موجودة في الأسواق البدوية.
كان في السابق يتم حمل الجهاز عادة على ظهور الجمال أو الخيل للمسافات الطويلة، أما النساء فيركبن على ظهور البغال والدواب، ويسير الرجال على أقدامهم. وبعد الوصول إلى بيت العريس تنطلق الزغاريد والموسيقى البدوية وبعدها تتجمع الناس وتوقد النار وتصنع القهوة ويدق المهباش، ومن ثم يقومون بتجهيز بيت الشعر للرجال والنساء لاستقبال أهل العروس والناس القادمة إليهم لمشاركتهم فرحتهم بعد أن يقوموا بإطلاق الموسيقى عالياً، ويقومون بعدها بتوسيع البيت للرجال وفتح شق صغير للنساء للتجمع فيه من جميع الأماكن بحيث يكون مستوراً عن الرجال.
وإذا لم تتوفر البيوت الكافية لدى الشخص استعيرت البيوت من نفس الفريق وهي تعد مسؤولية مشتركة فيما بينهم ، كما نجد أن أبناء البدو يحبون المشاركة في الأفراح والمناسبات حتى في الرقص والغناء والحاشية التي تغني وتلوح بأيديها تجاههم استعداداً لمقابلتهم ولدعوتهم في المشاركة في الرقص واللحن والمواويل والغناء فيما بينهم تعبيراً عن المشاركة والمحبة، وهذه كلها عادات وطقوس قديمة سادت لديهم.
من المعروف لديهم أيضا في الأفراح الرقص و(الصحجة) التي يعبرون فيها عن فرحتهم بالأعراس ولقاء من يحبون لمشاركتهم فيها، إن وصول الجهاز يعني البدء بالأفراح فتنطلق الموسيقى والعيارات النارية والزغاريد من أم العريس أو شقيقته فيتجمع كل من يسمع بذلك ، وبعدها يقومون بوضع أقمشة بيضاء أو خضراء على حبال البيت وهذه كلها تعد دعوة للقوم، وهذه الأفراح لا تحتاج إلى دعوة لأنها تعتبر من قبيل المشاركة بالأفراح والمناسبات السعيدة .
كما قد نجد أن الدعوى المسموعة للأفراح عند البدو تمر بمراحل منها الزغرودة والتي تصل إلى أقصى المحيط وتتناسب مع حياء الأنثى وطبيعتها، وأيضا المهباش (الدقاق) الذي قد يصل صوته إلى مسافة أكبر، وصوت البندقية الذي قد يصل إلى عدة كيلو مترات وذلك لتبليغ بقية العشيرة الأخرى بوجود الأعراس وتعبيراً عن الفرح، وهي دعوة أخرى للقوم، فبعد أن يسمعوا الزغاريد وأصوات العيارات النارية والموسيقى، ويروا النار الموقدة ينتبهون إلى مناسبة الدعوة ، وأن دعوتهم ليست للحرب أو الضرب وإنما دعوة للأفراح والأعراس والمناسبات السارة التي تحيط بهم. فهذه الوسائل كلها هي وسائل مادية ومعنوية.
وكما تتضمن أغاني النساء مديح العريس والعروس وأهلهما، تتضمن أيضا دعوة للعزوة (قوم العريس) أن يشاركوهم هذه الفرحة وتهنئتهم بحرارة بدوام الأفراح بالديار العامرة.
وفي الأعراس يتوافد كثيرون لحضور السامر والرقص والغناء البدوي والشعر والموسيقى والقصيد الأصيل، فالدعوة للفرح هي دعوة للتجمع ، وهي تلبية للرقصة وسماع صوت موسيقى: (الناي) أو الربابة أو صوت اللحن البدوي نفسه والتي تحمل في طياتها أكثر من تعبير، فهي في حد ذاتها يعتبرونها ترويحاً عن النفس وإراحةً للبال، ويجب أن يشارك الجميع في ذلك، ولكن في العادة تكون هذه المشاركة بأكثر من طريقة يتبعونها سواء بالرقص أو النظر إلى الذين يرقصون، فالرقص هو التعبير الأمثل للبدوي بتمثيله روح الفرح والمشاركة والمحبة، وتعتبر شكلاً من أشكال الوحدة القبلية في إطار واحد لتحقيق هدف معين كما أنها بالنسبة للشباب تعبير عن حماسهم، فيما يقره العاقلون وتعتبره علية القوم وذوو العقول مسرحيةً يشاهدونها ويستمتعون بمشاهدتها حتى تصل إلى درجة وقوفهم وبدء الرقص معهم.
وبعدها تبدأ الرقصة مع سماع صوت الموسيقى فيقوم المشاركون في الرقص بحركات بطيئة حتى يتكامل عدد مناسب لا يقل عن عشرة رجال، ثم تبدأ الحركة السريعة للجسم مع حركة اليدين والرأس واللفظ (ادحي) ويستمرون في ذلك مدة تطول أو تقصر حسب رغبة قائد الرقصة الذي يشير إليهم بالعصا أو بالحطّة (= الكوفيّة) التي تكون في يده أو على جنبه أثناء الرقص، وقائد الرقصة هو (القاصودة) .
بعد الانتهاء من الرقصة قد يتحول التعبير عن الفرحة بأسلوب آخر هو الدبكة بمرافقة الدربكة والشبابة والناي واليرغول، حيث تتشابك أيدي عدد من الشباب يقوده أحدهم الذي يكون تارة في مقدمة الصف وتارةً أخرى في الساحة التي أمامهم وبيده محرمة أو منديل ويتحرك الشباب حركات تتناسب والإيعاز الذي يعطيهم إياه قائدهم المسمى (الـّلويح) أي الذي يلوح لهم بيده أو بسيف.
أما عازف الشبابة أو الناي فيكون في الوسط واقفاً يدور حول نفسه مع دوران الراقصين أو الدبيكة، وتارة يقترب المغني الذي يبدأ بالقول ويرد عليه الباقون ، وقد يكون في كل بيت أومقطع من القصيد قافيته الخاصة به.
يعتبر البدو الموسيقى والغناء من أسباب تقدم حضارتهم البدوية كالمآكل والمشرب والملبس الذي لا يمكن أن يستغنوا عنه ولذلك فان أغلبية أفراحهم سواء الأعراس أو غيرها يغلب عليها طقوس الفرح والتفاؤل التي تخلقها الموسيقا وما يرافقها من رقص وغيرها من الطقوس المعبرة عن البهجة والسرور.
وهكذا هي طبيعة البداوة يتقاسمون حياتهم الاجتماعية والثقافية تلبية لمعتقداتهم فطبيعة الحياة التي يعيشونها قد تتطلب منهم ذلك، فضلاً عن الاعتناء والاهتمام باللباس التراثي القديم لأنه موضع اعتزاز وافتخار للبدوي، كما يفتخرون بما يمتازون به من رخاء وسخاء(27) ..
السّامر:
تتوافد في سهرات الأعراس أعداد غفيرة من الضيوف والمدعوين للمشاركة في حضور السامر، والسامر هو سلسلة الأنشطة الفنية التي تقدمها العشيرة في الأعراس، وتتضمن الرقصات، والصحجات، والقصيد، والدبكات، وغناء الهجيني. ويحرص أهل العريس على تقديم واجبات الضيافة لضيوفهم والترحيب بهم وعادة ما يقوم المغنّي بذلك كأن يقول:
“يا هلا حيي الضيوفِ بالرماح وبالسيوف”
إنَّ احترام الضيوف وتبجيلهم لا يدلُّ على شيم المعازيب النبيلة فحسب وإنما هو تحفيز للضيوف بالمشاركة في فعاليات السامر. وغالباً ما يقدّم المعازيب طعاماً للضيوف الذين قد يغضبون من المعازيب إذا لم يتم احترامهم. فمن واجب الضيوف على المعازيب إكرامهم وإجلاسهم في الأمكنة التي يستحقونها لأنّ “ المجالس ملازم الرجال”(28).
القصيد:
هو القصائد الشهيرة عند البدو الدالة على مكارم الأخلاق وفضائل العادات، كأنّ البدو يغتنمون جميع مناسباتهم لإعادة مصادقة على منظومة القيم الثقافية التي يصدرون عنها. (والقصيد مهم جدا فهو يبين قوة القائل ومقدرته على الحفظ وروعة أدائه وقدرته على التأثير في الآخرين وجذب انتباههم) وبعد ذلك تتوالى الرقصات (رقصات الدحية) التي تبدأ بإيقاع خفيض سرعان ما ترتفع وتيرته بمضيّ وقت مناسب، ويستخدم المشاركون أنواعاً متعددة من الأسلحة أثناء رقصهم، مثل: السيوف، والعصيّ، والشّباري (= الخناجر المُصدّفة)، والبنادق، والمسدسات التي يفاخرون بالتلويح بها وإطلاق الرصاص أثناء الرقص تعبيراً عن فروسيتهم واعتدادهم بالحرب والقوة. فالبدو يحاولون تأكيد أصل تكوينهم وتمسكهم بأصالتهم التي تمجّد الإغارة والقتال والحرب والبطولة والفروسية والمنازلة(29).
إحضار العروس:
يتوجه وفدٌ من أهل العريس لإحضار العروس ودعوة أهلها لحضور العرس ويُطلق على هذا الوفد “الفاردة”، ويكون هذا الوفد ممثلاً للعشيرة فيحرصون على الظهور بمظهر القوة والكرم والشجاعة، وفي طريقهم إلى مضارب أهل العروس يأخذون بالتسابق على ظهور الإبل والخيول أو السيارات حديثاً؛ إظهاراً لفروسيتهم وتعبيراً عن بسالتهم، ويكون أهل العروس بانتظارهم ويعدون لهم طعاماً ويعدون لهم فراشاً ، وتكون العروس جالسةً في المحرم مع بنات عشيرتها اللواتي يتولين تجهيزها والغناء لها غناء حزيناً مؤلماً، وأثناء عودة موكب العروس الذي تكون فيه أمها وأبوها وإخوتها إلى مضارب عشيرة العريس يأخذ الرجال أثناء المسير بالحداء وهو نوعٌ خاص من الغناء يبعث على التسلية(30).
طعام الغداء (المناسف البدوية):
تكون ليلة العرس ليلة التجهيز لطعام غداء اليوم التالي، حيث يقوم أبناء العشيرة بنحر الذبائح وتجهيزها وغالباً ما تكون من ممتلكاتهم من الإبل أو الماعز. وتكون ليلة الزفاف من أهم الليالي في حياة العشيرة، حيث تكثر الأعمال التي يجب إنجازها؛ إذ تتوجه النساء (قريبات العريس) إلى بيت العروس يصطحبن معهنّ كمية كافية من الحناء الذي تخضّب فيه العروس كفّيها وقدميها، وتوزيع الكميات الأخرى على النساء المشاركات، وبعد عودة النساء من مضارب العروس يقمن بإعداد حفلٍ للنساء تتخلله الزغاريد والأهازيج الدالة على التفاخر بالعشيرة وعلى منزلة العريس وصفاته وشمائله وبعد انتهاء الحفل تتولى النساء الإعداد لطعام الغداء وتجهيز (الجميد = اللبن المُجفّف) الذي يكون قد أُعدَّ منذ وقت طويل لهذه المناسبة، ويتمّ إيقاد النار وتجهيز القدور لعملية الطبخ، وتقوم نساء العشيرة كلّهن بالمشاركة في هذه الطقوس، إذ يتمّ تقسيم النساء إلى عدة أقسام؛ قسم يُعنى بتحضير خبز الشراك (خبز رقيق ذو شكل دائريّ كبير) الذي يوضع تحت الأرز وفوق اللحم، وقسمٌ يتولّى مرس الجميد(= إذابة اللبن المُجفف وتحضيره ليطهى مع اللحم)، وقسمٌ تُعهَدُ إليه مهمة سلق الأرز، أمَّا اللحم فتشرف على طبخه مجموعة من النساء الخبيرات في تجهيز هذا النوع من الولائم الضخمة. ويُعدُّ طعام الغداء (المنسف) من أهم فقرات العرس التي يحرص عليها البدو، إذ إنَّ الطعام يرتبط عندهم بالكرم واحترام الضيوف من جهة وإبراز قوتهم الاقتصادية والمباهاة بها من جهة أخرى.
وعند قدوم الضيوف والمدعوين لتناول الطعام يحضر بعضهم هدايا للعريس، وتسمى النقوط، وهي عبارة عن دينٌ مؤجل، ويتم استقبالهم من قِبَلِ المعازيب بالقهوة العربية الساخنة والترحيب بهم بصوت مرتفع. وتمهيداً للغداء يقوم مجموعة من الفتيان بإحضار الماء والصابون والدوران على الضيوف لغسل أيديهم، ثم يقوم أهل العريس وأقاربه بتوزيع المناسف على الضيوف والمدعوين آخذين بعين الاعتبار منزلتهم ومكانتهم، فالشيوخ والوجهاء يقدّم الطعام لهم أولاً ويشترط أن يكون طعاماً مخصصاً لهم من حيث جودته، وبعد ذلك يوزع الطعام على بقية المدعوين، ويقوم بعض شباب العشيرة بتشريب المناسف؛ أي سكب لبن الجميد الساخن عليها، ثم يقوم شيخ العشيرة بدعوة الضيوف لتناول الطعام قائلاً لهم: “تفضلوا على الميسور”، ويرافق ذلك إطلاق الرصاص من قبل عشيرة العريس تعبيراً عن فرحهم وكرمهم وتمسكهم بالعادات والتقاليد. وغالباً ما يحضر المدعوون وقد لبسوا أبهى الحُلل والملابس والعباءات وتسلَّحوا بكامل أسلحتهم للتدليل على منزلتهم ومكانتهم والبرهنة على نبلهم(31).
الخلاصة
يتـَّضحُ مما سبق أنَّ العرسَ البدويَّ الأردنيَّ لا يزالُ يحتفظُ بالخصائص التقليدية المتوارثة عبر الأجيال والمتعاقبة عبر السنوات. وجماعة البدو إنما تقوم بذلك حرصًا وتوكيداً على تمسكها بالعادات والتقاليد النابعة من وجدانها الذي تشكّل بفعل تجارب الجماعة الحريصة على الحفاظ على صفات الأصالة التي تمثـِّلُ صمـَّامَ أمان للنسيج الاجتماعي حيث تـُعدُّ القبيلةُ بناءً اجتماعياً متماسكاً يحرصُ أفرادها كلـُّهم على قوتها تعبيراً عن انتماء مطلقٍ وولاءٍ كاملٍ لها.
والعرسُ البدويُّ نشاطٌ ثقافيٌّ حافلٌ بالدلالات والرموز التي تـُمثـِّلُ، في الحاضنة الثقافية البدوية، رسوخ القيم، وثبات العادات الكفيلة بتحقيق استقلال للهوية، وتمايزٍ في تمثيلها. وهنا تظهر رموز العرس البدوي الذي لا يهدفُ إلى تأسيس أسرة جديدة فحسب وإنما يسعى لتحقيق الالتفاف حول القبيلة بوصفها الأسرة الكبرى التي تحرس الأفرادَ وتضمنُ حماية مصالحهم والذودَ عن أهدافهم وتطلعاتهم.
ومن أهم ملامح العرس البدوي أنه يصدر عن موقف تقليدي ينظر إلى الزواج نظرةً عمليةً في ظل منظومة قيمية لا تعترفُ إلا بالعلاقة الشرعية بين الرجل والمرأة، علاوة على إعلائه من شأنِ فكرة الزواج والتحريض عليها منذ الصغر. وتدلُّ طرق تنظيم الزواج عند البدو على المفاهيم التي يعتزُّ البدو بترسيخها والإبقاء عليها؛ فهم حريصون على النسب والتزاوج والتكاثر يصدرون، في ذلك، عن عقلية تمجد الكثرة وتقيم وزناً رفيعاً للغلبة والقوة وهي مفاهيم ترتبط، في وعيهم، بقوة القبيلة وهيبتها ونفوذها، فعدد أفراد القبيلة ينضاف إلى مصادرها الاقتصادية الأخرى حيث تغدو الأعداد مؤشراتٍ دالـَّةً على القوة والمنعة، كما أنَّ أبناءها هم يدها الطولى ورصيدها الحقيقي الذي تحرص على تنميته لما يعد به من فرصٍ ووعود.
أما مراحل العرس البدوي فتقدِّمُ دلالات مهمة تتعلـَّقُ بعناية البدو بالنواحي الشكلية وهم بذلك يؤكدون حرصهم على التقاليد المرعية الكاشفة عن معاني الوجاهة والأصالة واستعراض القوّة وأشكال التّمظهر الاجتماعيّ الباذخ. وفي هذا الجانب تحديداً تبرزُ ملامح الذكاء الثقافي والاجتماعي عند البدو حيث يتمسكون بقنوات اتصال بين الأطراف تضمن مراعاة لمقاماتهم وتقديراً لمكانتهم.
أما الطقوس والاحتفالات فتنمُّ على مكانة الفرح والسرور في نفوس البدو الذين ينتظرون العرس لإعلان تشبثهم بالحياة، فالاحتفالات التي ترافق العرس البدوي أشبه بكرنفال بهيج تشارك فيه القبيلة رجالاً ونساء وشباباً وأولاداً.
الهوامش
1 - انظر: عادل سركيس، الزواج وتطور المجتمع، ط1، دار الكتاب العربي، القاهرة، د.ت، ص 36.
2 - انظر: خليل عبد الكريم السعد، مستويات الزواج في الأردن (1979 ـ 1990)، رسالة ماجستير (مخطوط)، إشراف: أ.د. فوزي سهاونة، الجامعة الأردنية، 1993، ص 10.
3 - كان للبدو مصدرٌ آخر في تأمين الغذاء والطعام وهو (الإغارة) أي شنّ الحرب على العشائر الأخرى ونهب ممتلكاتها الاقتصادية.
4 - انظر: كلوب باشا، البدو وحياتهم: محاضرات تحليلية أذاعها الفريق كلوب باشا قائد الجيش العربي، عمان 1940، مطبعة الفيحاء، دمشق، ص 26 ـ 28.
5 - انظر: فوزية دياب، القيم والعادات الاجتماعية مع بحث ميداني لبعض العادات الاجتماعية، ط1، دار النهضة العربية، بيروت، 1980، ص 152.
6 - انظر: د. سليمان أحمد عبيدات، دراسة في عادات وتقاليد المجتمع الأردني، مؤسسة مصري للتوزيع، طرابلس ـ لبنان، د.ت.ط، ص 13 ـ 16.
7 - نفسه، 21.
8 - نفسه، ص 29.
9 - انظر: صالح خريسات، تقاليد الزواج في الأردن، ط1، الدار العربية للنشر والتوزيع، 1990، ص 19 ـ 20.
10 - انظر: البدو وحياتهم: محاضرات تحليلية أذاعها الفريق كلوب باشا قائد الجيش العربي، ص 14 ـ 15. و: دراسة في عادات وتقاليد المجتمع الأردني، ص108 ـ 113.
11 - انظر: دراسة في عادات وتقاليد المجتمع الأردني، ص 26 -29.
12 - نفسه، ص 12.
13 - انظر: البدو وحياتهم: محاضرات تحليلية أذاعها الفريق كلوب باشا قائد الجيش العربي، ص 7.
14 - انظر: دراسة في عادات وتقاليد المجتمع الأردني، ص 85.
15 - نفسه ، ص 82.
16 - انظر: أحمد عويدي العبادي، المناسبات عند العشائر الأردنية، (سلسلة من هم البدو؟)، ط2، دار البشير ـ دار العويدي، عمان، 1989، ص 149.
17 - المناسبات عند العشائر الأردنية، ص 164.
18 - (أهل العروس وأصحاب البيت).
19 - نفسه، 164 ـ 165.
20 - انظر: أحمد عويدي العبادي، من القيم والآداب البدوية، سلسلة من هم البدو؟، ط1، وزارة الإعلام الأردنية، 1976، ص 193 ـ 202. و: المناسبات عند العشائر الأردنية، ص 168 ـ 171.
21 - انظر: المناسبات عند العشائر الأردنية، ص 176 ـ177.
22 - نفسه، ص 193 ـ 206.
23 - انظر: المناسبات عند العشائر الأردنية، 220.
24 - نفسه، ص 209، 223.
25 - نفسه، ص274.
26 - انظر: أحمد عويدي العبادي، سابق، ص: 303-343
27 - نفسه، ص309 ـ 314.
28 - انظر: المناسبات عند العشائر الأردنية، ص315_ص318.
29 - انظر: البدو وحياتهم: محاضرات تحليلية أذاعها الفريق كلوب باشا قائد الجيش العربي، ص13،18. و: المناسبات عند العشائر الأردنية، ص326 ،328.
30 - انظر: المناسبات عند العشائر الأردنية، ص 355.
31 - انظر: المناسبات عند العشائر الأردنية، ص 344 ـ 355.
مصادر البحث ومراجعه
أحمد عويدي العبادي، المناسبات عند العشائر الأردنية، (سلسلة من هم البدو؟)، ط2، دار البشير ـ دار العويدي، عمان، 1989.
ـــــــــــــــــــــــــــ، من القيم والآداب البدوية، سلسلة من هم البدو؟، ط1، وزارة الإعلام الأردنية، 1976.
خليل عبد الكريم السعد، مستويات الزواج في الأردن (1979 ـ 1990)، رسالة ماجستير (مخطوط)، إشراف: أ.د. فوزي سهاونة، الجامعة الأردنية، 1993.
سليمان أحمد عبيدات، دراسة في عادات وتقاليد المجتمع الأردني، مؤسسة مصري للتوزيع، طرابلس ـ لبنان، د.ت.ط.
صالح خريسات، تقاليد الزواج في الأردن، ط1، الدار العربية للنشر والتوزيع، 1990.
عادل سركيس، الزواج وتطور المجتمع، ط1، دار الكتاب العربي، القاهرة، د.ت.
فوزية دياب، القيم والعادات الاجتماعية مع بحث ميداني لبعض العادات الاجتماعية، ط1، دار النهضة العربية، بيروت، 1980.
كلوب باشا، البدو وحياتهم: محاضرات تحليلية أذاعها الفريق كلوب باشا قائد الجيش العربي، عمان 1940، مطبعة الفيحاء، دمشق.