قراءة في علاقة الظاهرة الموسيقية بمسألة السّماع في تونس من خلال كتاب «أحكام السوق» ليحيى ابن عمر الأندلسي التونسي
العدد 29 - موسيقى وأداء حركي
مازالت بعض الآراء –رغم تعمّق التجاذبات السياسية والفقهية التي نشهدها اليوم-تَعُدّ الخوض في مسألة السّماع أو إثارتها في أيّ صورة من الصّور ضربا من الاجترار العقيم لموضوع تضاربت فيه الأقوال والأحكام، غير أنّه لا يمكن التسليم بهذه الآراء بمجرّد انطباع شخصي أو حتى تحاليل نقدية مفتقدة للدّقة، ولا يمكن في هذا السياق إلاّ الرجوع لمقولات المفكرين والفلاسفة والمؤرخين...
حتى يتيقّن الواحد منا أن ّ علاقة المسلمين بدينهم ليست مجرّد شعائر يردّدونها قولا أو فعلا وإنّما هي علاقة فلسفية تربط الإنسان بكل تفاصيل حياته اليومية. ونستحضر في هذا الصدد رأيا وجّهنا إليها قلم الفيلسوف التونسي”فتحي التريكي” عندما قال:
“إنّ تاريخ الإسلام كثيرا ما اعتبر لدى العرب والمسلمين مكوّنا جوهريّا لحاضرهم، هذا التاريخ الذي مازال حيّا ويوجّه التفكير الأيديولوجي والسّياسي”(1).
فإذا ما اعتبرنا هذا الرأي حاملا لجانب من الصحّة، فإنّه لن ينفي تأثير الدين الإسلامي(وهو مكوّن رئيسي وثابت ومؤثّر في الفكر والمجتمع العربيّين) عبر التاريخ على مختلف أنشطة حياة العربي المسلم. فالفكر الإسلامي بُني في جانب كبير منه على تعظيمه وتباهيه المستمرّ بعراقة التاريخ والحضارة في جوانب متعدّدة. وفي هذا المعنى قيل:
“الذاكرة التي كانت جزءًا حميما من التراث، يتباهى العرب بصفائها واتساع مداها، حفظت من دون شك الكثير من تاريخهم”(2).
وبناء على ذلك، شكّل دين الإسلام تواصلا لهذه العراقة والتباهي بما أنّه حمل معه خاتم الأنبياء والرسل، كما أنّه دين البشرية جمعاء، فنشأ تاريخ العرب المسلمين على أساس الفكر الدّيني. و لا يمكن أن ينكر أحد حقيقة أنّ التاريخ الإسلامي اعتمد هجرة الرسول كمنطلق للتأريخ(3)، بعد أن كان يؤرخ بالأيّام والأحداث.
وقد كان القرآن العظيم أوّل ملهم للتّأريخ الإسلامي بما فيه من قصص مليئة بالحكم والعبر، وكذلك سيرة الرسول الكريم بما جاء به من أحاديث تروي عن الماضي وتفيد الحاضر والمستقبل. وعلى ذلك وجدنا أنّ أولى المؤلفات التّأريخية العربية الإسلاميّة اهتمّت بالسيرة: ونذكر هنا أشهر هذه المؤلفات على سبيل المثال لا الحصر: “سيرة ابن هشام”.
ومن ثمة بدأت حركة التّأريخ تتخذ أشكالا تفرّعت في مرحلة لاحقة إلى كتب التراجم والجغرافيين وكذلك كتب الحسبة والبدع والفقه عموما، كمؤلفات تنظر إلى مسألة التّأريخ من زوايا مختلفة، ولكنها في الحقيقة مصطبغة بالطابع الديني.
ولن نطيل الحديث في هذه المسألة، بل ما يهمّنا فيها هي موقع الظاهرة الموسيقية وسط كلّ هذه المناحي والتوجهات الفكرية، إذ يبدو أنّ الموسيقى في بداية حركة التّأريخ الإسلامي كانت من المسائل التي تناولتها كتب الحسبة والفقه، فيُنظر إليها من زاوية مشروعيتها أو عدمها، إذا استثنينا بعض المؤلفات وأشهرها “كتاب الأغاني” لأبي فرج الأصفهاني وكتاب “مروج الذهب” لأبي الحسن بن علي المسعودي التي يمكن تنزيلها كمؤلفات تناولت جملة من الطروحات التاريخية الحضارية والثقافية، ومن بينها الغناء والموسيقى.
ونورد في هذا الإطار نموذجا من أهمّ ما كتب في هذا الإطار بالبلاد التونسية: كتاب “أحكام السوق ليحيى بن عمر الأندلسي التونسي”(القرن 3هـ /9م) وذلك نظرا لأهمّيته التاريخية في المستوى الفقهي. هذا إضافة إلى أنّ الكتاب وردت مجمل قضاياه في تونس الأغلبية.
أمّا في البداية فسننظر أوّلا في جانب المحتويات، لنعلّق في مرحلة ثانية على مدى تأثير هذا الطرح على كتابة تاريخ الموسيقى العربية، ثمّ إلى أيّ حدّ استجاب المنظّرون في الموسيقى العربية عموما إلى مواقف الفقهاء:
1 - التعريف بيحيى بن عمر الأندلسي التونسي
يذكر الباحث “محمود علي مكي” أنّه وَجَدَ تضاربا في نَسَبِ “يحيى بن عمر”، ولكنّه بعد الرّجوع إلى مختلف كتب الأعلام وطبقات العلماء والفقهاء، ثبت ما يلي:
هو أبو زكريّا يحيى بن عمر بن يوسف بن عامر الكناني الأندلسي التونسي، ولد سنة 828م في قرطبة. تتلمذ على يد فقهاء المالكية ومن أهمّهم عبد الملك بن حبيب.
بدأ في الرّحلة بحثا عن العلم في سنّ مبكّرة (تقريبا في سنّ الثالثة عشر) وذلك بتوجّهه إلى مصر أوّلا “كعبة الفقه المالكي آنذاك” ووريثة المدينة المُنوّرة. ثمّ إلى بغداد والحجاز.
ولم يقتصر يحيى بن عمر على المذهب المالكي واستغلّ وجوده بمصر ليقترب من المذهب الشافعي الذي بدأ في منافسة نظيره المالكي.
وعند عودته من رحلة الشرق، كانت شهرته قد سبقته إلى الأندلس وإفريقية حيث اختار أن يستقرّ نهائيّا، فكانت بها- أي إفريقية- حياته ومماته.
وقد استقرّ في البداية بالقيروان حيث تعرّف على عبد السلام بن سعيد المعروف بـ”القاضي سحنون”(توفي سنة 854م)(4)، وبلغ بها ما بلغ من الشهرة وارتفعت مكانته العلمية والفقهية. وكان القضاة وأصحاب السوق يكتبون إليه من سائر جهات إفريقية يستفتونه في ما كان يعرض لهم من مسائل(5).
لكنّ علاقة يحيى بن عمر بالسلطة سرعان ما توترت مع بداية ظهور علامات النهاية على الحكم الأغلبي، بحيث بدأ زحفُ الحنفية، وعُزل قاضي القيروان المالكي، فقرّر يحيى بن عمر أن يتّجه إلى العُزلة والمرابطة نتيجة لذلك، إذ لم يحتمل ذلك الاضطهاد الذي لازم فقهاء المالكية في آخر عهد سياسة الأغالبة وما عُرفت به من ظلم وفساد وتذبذب بين الحنفية والمالكية(6) . وقد كان رباط سوسة هو ذلك المأوى الذي لجأ إليه يحيى بن عمر وأحبّه فعكف فيه على العبادة والجهاد، وهناك جلب الناس إليه بمعرفته وحكمته وفتواه.
- آثاره:
ساهم يحيى بن عمر في نشر ما كان قد أخذه عن أساتذته من مؤلفاتهم: موطّأ مالك، مدوّنة سحنون، مجالس أصبغ بن الفرج، وسماعه عن ابن قاسم، ولكنّه لم يكتف بذلك وكانت له مؤلفات في الفقه في أربعين جزء، منها:
- كتاب المنتخبة
- كتاب اختلاف بن قاسم وأشهب
- كتاب الردّ على المرجئة
- كتاب الصّراط
- كتاب الميزان
- كتاب الرؤية
- الردّ على الشكوكية
- كتاب النهي عن حضور مسجد السبت
- كتاب وساوس إبليس وكيده(الوسوسة)
- كتاب الردّ على الشافعي
- كتاب فضائل المنستير والرّباط
- كتاب أحمية الحصون
وعموما كانت حياة يحيى بن عمر زاخرة بالنشاط والجدال الفقهي، وكان من بين أشرس الرجال دفاعا عن المالكية السنّيّة. غير أنّه أتُّهِم بجمود فكره لأنّه لا يُجدّد بمرور الزمن واختلاف الظروف، طريقة تعامله مع المسائل الدينية. وهو في الردّ على ذلك يدعو إلى ضرورة توحيد الدين.
2 - أهمّيّة كتابه “أحكام السوق” ليحيى بن عمر الأندلسي التونسي
يعتبر هذا الكتاب من المؤلفات التونسية الهامة في الموضوع الفقهي. إذ يقول عنه المؤرّخ عثمان الكعاك:
«وكتب البدع كثيرة وأقدم من ألّف فيها من التونسيين: محمّد بن سحنون المتوفي سنة 256هـ. وكتاب يحيى بن عمر دفين سوسة، كتاب أحكام السوق، نعرف منه فلكلور التجارة والصناعات والأسواق» (7) .
وإذ علمنا بأنّ المؤرّخ التونسي حسن حسني عبد الوهاب كان يملك نسخة من الكتاب، وعمل على تحقيقه ونشره لو لا تسارعت له المنية (8) ، فإنّنا نعتمد في هذا البحث على دراسة مطولة للباحث “محمود علي مكي” في صحيفة المعهد المصري للدراسات الإسلامية حول “أحكام السوق”. ولقد استقى هذا الباحث معظم فقرات الكتاب من كتاب المعيار المغرب والجامع المعرب عن فتاوَى أهل إفريقية والأندلس والمغرب لصاحبه “أبو العباس أحمد بن يحيى التلمساني الونشريسي”(توفّي سنة 1549م) الذي أورد في كتابه هذا، قطعة من كتاب أحكام السوق أو مختصرًا منه، نقله عن تلميذ يحيى بن عمر: أبو عبد الله بن شبل. وقد اجتهد في نشره محمود علي مكي كاملا كما جاء في “المعيار”، ونحن نورد منه في هذا البحث جزء خاصّ في الحديث عن حكم استعمال آلات اللّهو والقضاء فيها، وذلك بكلّ دقّة كما جاء في مستوى المتن والهامش:
2-1 النص الفقهي:
القضاء في الملاهي (9)
يتنزّل هذا النصّ بين الصفحة 119و122 من مقال الباحث محمود علي مكي:
«( إذا كان في الوليمة فعل محرّم فلا يجيب، ومن سرق آلة لهو قُوّمت عليه مكسورة)»
وسُئل يحيى عن الرّجُل يُدعى إلى العرس وهو الوليمة أو الختان أو الصّنيع فيَسْمَعُ فيه ضرب بوق(10) أو ضرب كَبَرٍ(11) أو ضرب مِزْهَرٍ(12) أو ضرب عُود(13) أو طُنبور(14)، ويعلم أنّ فيه شرابا مُسكرًا، أترى له أن يُجيب؟ قال يحيى: لا يُجيب إذا علم فيه مُسكِرًا.
ولو أنّ البوق سرقه رجل، لقُوِّم ثمنه مكسورا، فإن كان رُبُع دينار قُطِعَ. وكذلك العود وغيره من الملاهي ممّا لا يحلّ: إنّما تُقوَّمُ مكسورة، وليس كذلك الكبَرُ والدُّفُّ(15) المُدوّرُ لأنّ هذين قد سُهّل فيهما وإنّما يقوّمان صحيحين.
(ما يُنهى عنه من آلات اللهو)
وسُئل يحيى عمّن استرعاه الله رعيّته إذا سمع البوق في عرس أو الكَبَر والِمزْهَرَ في غير عُرس. فقال: أرى أن يُنهى عن ذلك كلّه إلاّ أن يكون في عرس فقد بيّنت لك قبل هذا ما يُنهى عنه، وما سهّل فيه أهلُ العلم لإظهار العرس.
قال أصْبَغُ: وسمعت ابن القاسم وسُئل عن رجُلٍ دُعِي إلى صنيع فوجد فيه لعبا، أيدخلُ؟ فقال: إن كان الشيء الخفيف من الدّفّ والكبر والشيء الذي يلعب به النّساء فلا أرى به بأسا(ص293). وذُكِر عن مالك في الدّفّ والكبر أنّه لا بأس به. قال أصْبَغُ: هي في العرس للنساء وإظهار العرس، وقد أخبرني عيسى بن يونس(16) عن خالد بن إلياس(17)عن ربيعة بن عبد
الرحمان(18) عن القاسم بن محمّد بن أبي بكر(19) عن عائشة(20) زوج النبي صلى الله عليه وسلم: قال: أظهروا النكاح واضربوا عليه بالغربال(21) -يعني الدفّ المُدوّر(22) .
قال أصبغ:(...) ولا يجوز الغناء على حال في عرس ولا غيره. وقد أخبرني ابن وهب عن الليث بن سعد(23) أنّ عمر بن عبد العزيز(24) كتب في البلدان أن يُقطع اللهو كلّه إلاّ الدفّ وحده في العرس. قال يحيى وبهذا آخذ وهو رأيي.»
2-2 إطار النصّ:
الإطار الزماني: بين القرن التاسع والعاشر الميلادي/الثالث والسادس هجري
الإطار المكاني: القيروان- سوسة
وقد عرفت هذه الفترة في العالم العربي الإسلامي عموما، وفي تونس خصوصا، خصومات فقهيّة حامية، تنامت في تونس بين “فقهاء إفريقيّة المالكيين ودعاة الشيعة”،(...) انتهت بـ“انهزام الشيعة وزوال أثرهم من المغرب عند انقلاب بني زيري عليهم وارتدادهم إلى السنّة”(25) .
وقد كان لهذه الخصومات الأثر العظيم على المؤلفات المكتوبة في تلك الفترة وما بعدها حول مسألة السّماع: فهذا “ابن عبد ربّه في الغرب في القرن العاشر يلوم القائلين بأنّ سماع الموسيقى من الذنوب، ووجد في نفس الوقت فقهاء قالوا إنّ الموسيقى يجب أن تُمنع. وفي نهاية القرن الحادي عشر ،كان المرابطون المُتشدّدون سادة الأراضي فأسكتوا أصوات مؤيّدي السّماع، وصار “إحياء علوم الدّين” للغزالي من الكتب الممنوعة. ولدينا في القرن الثاني عشر أبا بكر بن العربي (المتوفى عام 1151م) قاضي إشبيلية المشهور يُدافع عن الموسيقى ضدّ تزمّت المتزمّتين(...)”(26)
2-3 عناصر النّصّ:
تتلخص عناصر نصّ يحيى بن عمر، الذي تناول مسألة الموسيقى من منظور فقهي، في الجدول التالي:
الحكم الفقهي | الوسائل المعبرة | المناسبة الداعية للممارسة الموسيقية |
- يُنهى عن سماع آلات اللهو كلّها إلاّ أن يكون في عرس - عدم إجابة الدّعوة إذا كان في العرس مُسكرًا. - سرقة آلة لهو تقوّم مكسورة، إلاّ آلة الدّفّ |
- الغناء - البوق، الكَبَرُ(27)، الدفّ المزهر، العود، الطّنبور |
- العرس - الختان - الصنيع |
فمن خلال هذا الجدول يمكن استنتاج نظرة محددة لأصحاب القراءة الفقهية للممارسة الموسيقية: فأن يقول قائل بالنهي عن سماع الآلات الموسيقية إلاّ في العرس أو الختان أو الصنيع، فذلك دعوة إلى إقصاء حضور الموسيقى بصور مخالفة أخرى ربما تكون أكثر عمقا وتتجاوز تجسيدها لفرحة عامّة الناس إلى اللذة الفكرية والإبداع الفكري الذي ينعدم في صورة الانغلاق والتقوقع في الفكر الأوحد.
3 - استنتاجات
ويبدو وكأنّ الفئة المتفقهة في الدين-من خلال نموذج يحيى بن عمر- لا تريد أن تفتح المجال لتعدّد إمكانيات الممارسة الموسيقية. وإنّه لأكبر دليل على ذلك، أن نعود في هذا الصّدد إلى فصل السّماع آداب السّماع والوجد لأبي حامد الغزالي(1058-1111م).
إذ يثير هذا الفصل إشكاليّة تضارب المواقف الفقهيّة حول المسألة الموسيقيّة، التي يمكن أن نستخرج من خلالها بعض الملابسات الأيديولوجية التالية:
- رفض النظر إلى ما يمكن أن ترتبط به الممارسة الموسيقية في زمان ومكان وأطر شرعيّة، وبالتالي رفض الاعتدال، وهو ما يدلّ على وجود ثلة من الفقهاء التي تؤثر التعصّب والرّأي والواحد. وهي بذلك تسيء إلى الإسلام الذي يقوم على مبادئ من الشورى والتعامل مع الرّأي والرّأي المخالف. وليس أوضح من ذلك إلاّ بأن ندعّم رأينا بما لقيه فكر “أبي حامد الغزالي”ذاته في كتابه “إحياء علوم الدين” من معارضة بادئ الأمر في المغرب، ونَعْته بالفساد، لأنّه حمل أفكارا اعتداليّة تتّضح في قوله التالي:
“ فقد خرج من جملة التفصيل السابق أنّ السّماع قد يكون حراما محضا وقد يكون مباحا وقد يكون مكروها وقد يكون مستحبّا. أمّا الحرام فهو لأكثر الناس من الشبّان ومن غلبت عليهم شهوة الدّنيا فلا يحرّك السّماع منهم إلاّ ما هو الغالب على قلوبهم من الصفات المذمومة. وأمّا المكروه فهو لمن ينزله على صورة المخلوقين ولكنّه يتّخذه عادة له في أكثر الأوقات على سبيل اللهو. وأمّا المباح فهو لمن لا حظّ له منه إلاّ التلذّذ بالصّوت الحسن، وأمّا المستحبّ فهو لمن غلب عليه حبّ الله تعالى ولم يحرّك السّماع منه إلاّ الصّفات المحمودة والحمد لله وحده وصلّى الله على محمّد وآله”(28)
- تناقض الفقه مع ما لقيه النشاط الموسيقي من استمراريّة في ميدان التصوّف كنهج تعبّدي بما يحتويه من ممارسات تقوم على السماع(قراءة القرآن/ المدائح/ الرقص(الدوران عند المولويّة)، إلخ.
- توالد الرغبة المتجدّدة في دعم فكرة أنّ الدين هو العنصر الفعّال في تسيير الواقع الاجتماعي والسياسي، ونتيجة لذلك، فإن كان شأن السّماع بما هو ممارسة موسيقية قد يربك المنظومة الدينية أو السياسية ولو بقيد أنملة فإنّه على ذلك مرفوض ومحرّم.
وقد يوصف ذلك(أي تضارب المواقف) “هروبا” من المسؤولية التي على الفقهاء خوفا من الانزلاق في بعض القرارات الخاطئة أو التي تجرّ إلى نتائج لا تُحمد عقباها. وهذا في الحقيقة تواصل لخوف أكبر شمل تفسير القرآن وكتابة السيرة النبوية في بداية تبلوُر دين الإسلام، إذ أنّ النخبة التي «انكبّت على تفسير القرآن والحديث، تهيّبت الكتابة خشيةً ممّا قد تجرّ إليه من لبس أو سوء فهم لأقوالهم المُدوّنة» (29) .
لكن في المقابل، يجد القارئ للنصّ القصير المدرج، أنّ الظروف المتوفرة تبشر بوجود حقيقة أخرى:
إذ نجد ثراء وتنوّعا في مستوى الآلات الموسيقية: وهي إيقاعية، هوائية ووتريّة. مثل الدف والكَبَر(وهو كما عرّفه محمود علي مكي في بحثه: هو الطّبل مُعرّب عن اللاتينيّةcorus أوcaurus) والمزهر(30) والبوق والعود والطنبور.
و قد ارتبط هذا الثراء في مستوى الآلات الموسيقيّة في حدّ ذاته بحقيقة أخرى مفادها أنّ القرنين التاسع والعاشر يَذْكران لنا أسماء خالدة من المنظرين الموسيقيين وأصحاب الأصوات المطربة. ويكفي أن نذْكُر في هذا الإطار جزءًا من قائمةِ المؤلفات المتعلقة بهذين القرنين:
- الكندي، أبو يوسف يعقوب بن إسحاق(متوفى حوالي سنة 874م)، رسالة في خبر صناعة التّأليف(القرن التاسع الميلادي).
- الكندي، أبو يوسف يعقوب بن إسحاق، رسالة في أجزاء خبرية في الموسيقى.
- الكندي، أبو يوسف يعقوب، مختصر الموسيقى في تأليف النغم وصناعة العود.
- ابن المنجم، أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى بن أبي منصور النديم(متوفى سنة 912م)، رسالة في الموسيقى.
- ابن خرّداذبة، أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله(متوفى سنة 912م)، كتاب اللهو والملاهي.
- الفارابي، أبو نصر محمّد بن محمّد بن طرخان بن أزلاغ(متوفى حوالي سنة 950م)، كتاب الموسيقى الكبير.
- الفارابي، كتاب الإيقاعات.
- أبو فرج الأصفهاني، علي بن الحسين بن محمّد القرشي(متوفى سنة 967م)، كتاب الأغاني الكبير.
- أبناء موسى بن شاكر(توفي أحد هؤلاء الإخوة الثلاث المسمّى محمّد سنة 873م، الآلة التي تزمّر بنفسها
- إخوان الصفا، رسائل إخوان الصفا( القرن العاشر الميلادي )
كما يجب أن نذكر بقائمة أخرى من المراجع التاريخية التي تحتوي على إشارات موسيقية في نفس الفترة، وأشهرها على الإطلاق تلك التي ذكرناها سابقا:
- ابن عبد ربّه، أبو عمر أحمد(متوفى سنة 940م)، كتاب العقد الفريد.
- المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين بن علي(متوفى حوالي سنة 957م)، مروج الذهب ومعادن الجوهر.
وتجدر الإشارة -من خلال هذه القائمة- إلى أنّ التاريخ في القرنين التاسع والعاشر ميلادي حفظ لنا في مجال الموسيقى مؤلفات علمية نظرية وتطبيقية تدلّ على مشهد مشعّ مخالف لما تصوّره لنا المؤلفات الفقهية.
فأن يُقتصر على النظر للممارسة الموسيقية من زاوية “اللهو” و“المحرّم”، وبالتالي النظر في كتب ومؤلفات من قبيل:
- إبن أبي الدنيا، أبو بكر عبد الله بن محمّد بن عبيد(متوفى سنة 894م)، ذمّ الملاهي.
يجعل من المجال الموسيقي ميدانا يحذر الناس منه، فلا يخوضون فيه إلاّ في أفراحهم، وذلك بطرق مقننة لا تسمح بتلك الآلة أو أنّها توافق على أخرى بتبريرات أقلّ ما قال عن معظمها “الغزالي” أنّها في حاجة إلى “البحث عن مدارك الحظر والإباحة بالعقل والسمع”(31). ولا أوضح من ذلك إلاّ ما ورد في متن النصّ التالي ليحيى بن عمر من حطّ لقيمة بعض الآلات الموسيقية:
“ولو أنّ البوق سرقه رجل، لقُوِّم ثمنه مكسورا، فإن كان رُبُع دينار قُطِعَ. وكذلك العود وغيره من الملاهي ممّا لا يحلّ: إنّما تُقوَّمُ مكسورة، وليس كذلك الكبَرُ والدُّفُّ المُدوّرُ لأنّ هذين قد سُهّل فيهما وإنّما يقوّمان صحيحين.”(32)
وبالتالي ألا يمكن اعتبار أنّ النظرة الفقهيّة لكتابة تاريخ الموسيقى العربية جعلت المشهد الموسيقي غامضا، خاصّة إذا علمنا بوجود جبهة أخرى من العلماء والمنظرين والموسيقيين الذيـن أعطوا للموسيقى العربية صورة مغايرة عن تلك التي تصفها المؤلفات الفقهيّة. هذا علاوة على وجود فئة من الفقهاء التي كانت أكثر اعتدالا وعقلانية في تعاملها مع المسألة الموسيقية، مثل أبي حامد الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين.
المراجع :
1 -Triki, Fathi, l’esprit historien dans la civilisation arabe et islamique, Tunisie, maison tunisienne de l’édition, faculté des sciences humaines et sociales,1991, p65.
2 -بيضون، إبراهيم، مسائل المنهج في الكتابة التاريخيّة العربيّة، بيروت/لبنان، دار المؤرّخ العربي، الطبعة الأولى، 1995، ص7.
3 - يمكن العودة إلى مقال هامّ في هذا الصّدد، وهو يطرح جملة من الاقتراحات التي جعلت المسلمين يختارون التأريخ من الهجرة:
الحجوي، محمّد، «الهجرة النبويّة مبدأ التاريخ الإسلامي»، المجلة الزيتونيّة، تونس، رئيس التحرير: محمّد مختار بن محمود، المطبعة التونسية، مارس1939، المجلّد 3-الجزء 3، من ص 128-ص132.
4 - وهو إمام المالكية في إفريقية، لديه مدوّنة بلغت من الشهرة ما جعل تلاميذه يتدفقون إليه من أنحاء الأندلس والمغرب
5 - علي مكي، محمود، «كتاب أحكام السوق ليحيى بن عمر الأندلسي»، صحيفة المعهد المصري للدّراسات الإسلاميّة (في مدريد)، جمهورية مصر، مطبعة المعهد المصري، 1956، المجلّد الرابع، العدد1-2، ص67.
6 - علي مكي، محمود، المصدر نفسه، 71.
7 - الكعاك، عثمان، التقاليد والعادات التّونسيّة، تونس، الدّار التونسيّّة للنّشر، المطبعة القوميّة للنشر، الطّبعة الرّابعة، ماي 1987، ص8.
8 - وتذكر دائرة المعارف التونسيّة(الكراس الرابع/1994)، بيت الحكمة/ قرطاج، ص182 أنّ الكتاب موجود على شكلين مخطوطان أصليّان كاملان في نسختين أحدها تحت رقم 3137 بالمكتبة الزيتونيّة (التي نقل جزء كبير منها إلى مركز المكتبة الجديد منذ ديسمبر 2005). والأخرى بإحدى المجموعات الخاصّة.
9 - شدّدت كتب الفقه والحسبة في النهي عن أدوات اللهو جميعها. ولعلّ المذهب المالكي كان أشدّ المذاهب الفقهية قوة في تحريم آلات الموسيقى(انظرFarmer : A History of Arabian Music, ed. London, 1929, p.29) وإذا كان يحيى بن عمر كما نرى قد تساهل في الدّفّ المدوّر والكبر فإنّ بعض الفقهاء، حرّموا هذين أيضا(انظر ابن عبد الرؤوف: ثلاث رسائل، ص83). ويقول ابن فرحون إنّه ينبغي تأديب من يبيع آلات اللهو، ويفسخ البيع وتُكسّر الآلات(تبصرة الحكّام، 2/241) إلاّ أنّه يجدر بنا أن نذكر أنّ هذا التحريم كان أمرا نظريّا أكثر منه واقعيّا في كثير من الأحيان.
10 - البوق آلة مُجوّفة مستطيلة يُنفخُ فيها ويُزمّر، وهذه الكلمة مُعرّبة عن اللاتينيةbuccina وقد احتفظت الإسبانية بهذه الكلمة العربية بهذه الصورةalbogue-راجع: Dozy :supplement…I,p.128-129
11 - الكَبَرُ هو الطّبل مُعرّب عن اللاتينيّةcorus أوcaurus، أنظر Dozy :supplement…II, p.437-438.
12 - المزهر هو الدّفّ الكبير. أنظر Dozy : supplement…,I , p.609
13 - العود من آلات العزف المعروفة. وقد بقيت هذه الكلمة في الإسبانية بهذه الصيغةlaùd وقد أدخل العرب هذه الآلة إلى إسبانيا في القرن الثامن ميلادي ومنها انتشرت في سائر بلاد أوروبا – راجع ما كُتب عن العود في دائرة المعارف العالمية المصوّرة: Enciclopedia Universal Ilustrada Europeoamericana, Madrid, XXIX, p.1087.
14 - الطنبور من آلات الطّرب: ذو عنق طويل وستّة أوتار . وقد بقيت هذه الكلمة في الإسبانيّة بهذه الصّورة tambor- راجع ما كُتِب عنها في : Enciclopedia Universal, LIX, p.214
15 - الدُّفُّ من آلات الموسيقى، وقد احتفظ بهذا الإسم العربي في الإسبانية بهاتين الصّورتين: adufe, adufre –انظر:del hispanoàrabe, ed.Madrid, 1932, P.120 Arnald Steiger : Contribucion a la fonética
16 - عيسى بن يونس الهمذاني الكوفي، من كبار المحدّثين ،سمع من مالك بن أنس، و الأوزاعي وغيرهما، وكان من الثقات، سكن الشام وتوفّي سنة 191/806- انظر محي الدّين بن شرف النووي: تهذيب الأسماء واللغات(ط. القاهرة- القسم الأوّل 2/47)
17 - خالد بن إلياس أبو الهيثم العدوي مدني قُرشي- ذكره البخاري وقال إنّه محدّث ضعيف» ليس بشيء» (التاريخ الكبير، ط. حيدرأباد الدكن سنة 1361هـ-2/128 ترجمة 472)
18 - ربيعة بن عبد الرحمان القُرشي المعروف بربيعة الرّأي، من جلة التابعين، سمع من قاسم بن محمّد بن أبي بكر وسعيد بن مسيب وأنس بن مالك، وهو أستاذ الإمام مالك بن أنس، وتوفّي سنة 136/753- انظر النووي: التهذيب القسم الأوّل 2/55.
19 - في الأصل «عن القاسم بن محمّد بن أبي بكر...» وهو لا يستقيم بل الصواب ما ذكرناه. والقاسم بن محمّد هو أحد فقهاء المدينة السّبعة الذين تُلمذ عليهم مالك بن أنس، وهو من خيرة التابعين، توفي سنة 112/730- انظر النووي: التهذيب، القسم الأوّل، 2/55.
20 - عائشة بنت أبي بكر الصدّيق زوج النبي(صلعم) وهي من أكثر الصّحابة رواية عن النبيّ توفّيت سنة 57/676- انظر النووي: التهذيب، القسم الأوّل 2/350-352.
21 - ورد هذا الحديث بهذا الإسناد في سنن المصطفى لابن ماجة، 1/586
22 - عن الضرب بالدّفّ في النّكاح والأحاديث النبوية الواردة في ذلك، راجع البخاري: الصحيح(ط. بولاق 1312هـ)، 7/19.
23 - في الأصل» الليث بن سعيد» وهو تحريف، والليث بن سعد فقيه مصري مشهور كان أبوه من التابعين، ودرس هو على كثير من فقهاء مصر ومكة والمدينة، وانفرد بمذهب فقهي خاصّ إلاّ أنّ هذا المذهب لم يُقَدَّر له البقاء طويلا. وكان من تلامذته بمصر: ابن القاسم وابن وهب وأشهب. وتوفي سنة 175/790(انظر ابن خلكان: وفيات الأعيان، ط. بولاق، 1/554.
24 - عمر بن عبد العزيز بم مروان هو الخليفة الثامن من خلفاء بني أميّة، وُلّي بعد سليمان بن عبد الملك سنة 99/717، ويُعتبرُ من أئمّة التابعين ومن خيار الخلفاء. توفي سنة 101/719- انظر النووي: التهذيب، القسم الأوّل، 2/17-24.
25 - سويسي، محمّد، التّعليم في الجناح الغربي من دار الإسلام وخاصّة بإفريقيّة( القرن 1هـ - القرن 8هـ)، تونس، مركز النّشر الجامعي، 2005، ص15.
26 - فارمر، هنري جورج، تاريخ الموسيقى العربيّة، ترجمة حسين نصّار، راجعه عبد العزيز الأهواني، مصر، مكتبة مصر، دار مصر للطّباعة، بدون تاريخ، ص230.
27 - الغزالي، أبو حامد، المصدر نفسه، ص1183.
28 - بيضون، إبراهيم، مسائل المنهج في الكتابة التاريخيّة العربيّة، بيروت/لبنان، دار المؤرّخ العربي، الطبعة الأولى، 1995، ص7.
29 - يبدو أنّ هذه التسمية تطلق على نوعين من الآلات:
- آلة إيقاعية كما جاء في هذا النصّ
- آلة وتريّة من فصيلة العود
30 - الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين: كتاب آداب السماع والوجد، القاهرة، دار الشعب، الجزء السادس، 1980، ص 1124.
31 - علي مكي، محمود، «كتاب أحكام السوق ليحيى بن عمر الأندلسي»، صحيفة المعهد المصري للدّراسات الإسلاميّة (في مدريد)، جمهورية مصر، مطبعة المعهد المصري، 1956، المجلّد الرابع، العدد1-2، ص119.
32 - صورة لغلاف كتاب «أحكام السوق» ليحيى بن عمر الأندلسي التونسي
33 - صورة متخيلة لأبي حامد الغزالي مأخوذة من الرابط التالي:
http://www.mawhopon.net/Islamic-civilization/693-%D8%A3%D8%A8%D9%88D8%AD%D8%A7%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B2%D8%A7%D9%84%D9%8A-%D8%AD%D8%AC%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D88%B3%D9%84%D8%A7%D9%85.html