وللشّفويّة نصيب من الأفق الإبداعي وصف الجواد مثالاً
العدد 50 - أدب شعبي
لا يزال النّص الشفويّ غريبا حتى قيّض الله له من أصحاب النّظر من يبحث في أسراره ويُلفت إليه كمن يروّض وحشا من أمثال توماس ميلر و جيمس مونرو و أونج وبول زيمتور ... وغدا للشفويّ أهلٌ وعادت اللّغة إلى بداهة دي سوسير: «اللّسان هو ما ننجزه».. ولقد كان في البدء الصّوت الذي ينجز كلّ شيء...
وحتّى لا نطيل في أمر هو قيد البحث نرسم لهذا المقال سؤال أفقه:
هل يصحّ القول بأنّ التشابه في البيئة والثقافة – ثقافة بداوة الرّعي - وظروف الحياة ينتج نصوصا متشابهة رغم التباعد في الزّمن وانقطاع بعضها عن بعض بمستويين لغويين شفويّ وفصيح؟
ولاختبار هذه الفرضيّة اخترنا مقاربة تيمة من تيمات الوصف وهي وصف الجواد فيما توفّر لنا من مدوّنة الشعر الشفوي التونسي وفيما ورد في الشعر الجاهلي من خلال رصد اندفاع حركة الجواد وجماليتها.
اندفاع حركته
لئن اهتمّ الشعراء بصورة الجواد ثابتا ساكنا فرأوا فيه ما يراه الواصف من جمال في صورته وعظمة في خلقه وتناسب في أعضائه واستواء في هيكله، فمن باب أولى أن يوسعوا في وصف حركته واندفاعها. فما اتخذه العرب مطيّة في مهامّهم إلاّ لما في هذا الحيوان من إسراع في النجدة واستجابة خاطفة للأمر بالسّير وانصياع لحركة فارسه، حتّى رأوا في ذلك سلامة طبع ودليل عراقة وعلامة تأصّل.ومن اليسير أن نلاحظ غلبة هذا القسم كميّا في أغلب النماذج التي انتخبناها فقد أفاض فيه الشعراء القول فجعلوا من اندفاع الجواد صورا تحتدّ في عنف الحركة وأناقتها في الآن نفسه. وفي هذا الباب بالذّات نكاد نعثر على مماثلة شبه تامّة بين المدوّنتين وهو أمر طبيعي فقد ظلّت حركة الجواد في كلّ زمان هي قطب القول ورحاه.
ولأنّ الجواد/ الكوت ـ وهو إسمه البدوي ـ بعد أن ننزع عنه «الثقافة» لا يبقى منه غير ما يمكن أن تهبه الطبيعة لهذا الكائن من صفات «الصافنات الجُرد» التي تمنح لركوبها وظيفتين مهمّتين: الاندفاعَ والامتناعَ، اندفاع الحركة إذا كرّت وامتناع اللّحاق بها إذا فرّت. ونكاد نجد المعنيين في أغلب المدوّنتين صنوين. ولعلّ البيت الأشهر لامرئ القيس الذي اتّبع معناه الغالب من شعراء الخيل، خير ممثّل لما ذكرنا: (الطويل)
مِكَرٌّ مِفَرٌّ مُقْبِلٌ مُدْبِرٌ مَعًا
كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ
وشبيه به «عرف» جامع للشاعر بلقاسم بن لطيف يفصّل في ألوان الخيل ومناقبها1، وأيضا قول الشاعر عبد الله بن زكري:
الدِّنْيَا ورْكُوبِ الْمَدُّوبْ
يْفِكّْ الْمَغْلُوبْ
كِيفْ يَبْدَا راسَه مَطْلُوبْ
رْكُوبْ الجُولَاحْ الدِّنْيَا وِرْكُوبِ الْجُولَاحْ
يْفُكّْ اللِّي طَاحْ كِي يَبْدَا هَايِمْ بِصْحَاحْ
وهـذا الأمـر المشـتـرك فـي النّصـوص هـو مشـترك أيضـا في رؤيـة الشـاعـريـن لـلانـدفـاع فـي حركة الجواد. فهي حركة في المكان تهيمن عليه وتتملّكه من خلال فعلين متناقضين ولكنّهما منسجمان، وكثيرا ما انبسط القول فـي وصف عنف الحركة وقوّتها فيتغيّر إذ ذاك معجـم الوصف، ويتخيّر لـه الشعـراء مـن الحـروف الشّـديـدة، واللّفـظ الغـريـب مـا يناسب شدّتها.
ونلاحظ أنّ الشعراء في سياق ذكر الحركة كثيرا ما يبينون وتتضّح معانيهم، حتّى إذا دخلوا باب وصف الحركة اشتقّوا للوصف كلّ عبارة مدوّية كأنّهم يتلبّسون بالصورة فيخرجونها وقعا صوتيّا قبل الدلالة المعنوية.يقول متمّم بن نويرة في المفضلية التاسعة2: (الكامل)
تَئِقٌ إِذَا أَرْسَـلْتَهُ مُتَقَاذِفٌ
طَمَّاحُ أَشْــرَافٍ إِذَا مَا يَنْزَعُ
وَكَأَنَّهُ فَوْتَ الجَوَالِبِ جَانِثًا
رِئْمٌ، تَضَايِفَهُ كِلاَبٌ، أَخْضَعُ
فهو جواد سريع الغضب ينقذف نحو العدوّ انقذافا طلقٌ نزّاعٌ في جريه، ثمّ يأتي التشبيه التمثيلي بالظبي، تأخذه الكلاب من ناحيتيه، لتكون الصورة منتزعة من قوّة الحركة، وعنفها تعضدها أوزان صيغ المبالغة «فعّال» و»أفعل».
ونكاد نعثر على العناصر نفسها في عرف قصيدة الشاعر «الشاهد لبيض»:
أصيلْ عَرْبي ذاتَه
مَكْـرومْ فوقْ الْكَرمْ عَالَمِخْلاتَه
مِـنْ كلْ صيفَـة كـامْلَة صيفاتَه
مْقلّصْ كمــا وِلْد الْغزالْ سيقانَا
يْجَـــلّحْ يْقَمِّـرْ تِعِجْبَـكْ حَـدْفاتَه
يْخلّي الْوطـى مِنْ حافْرَه غَظْبانَة
فهذا «الكوت» من أصل كريم، كولد الغزال في استواء ساقه، يقفز وينقذف فيترك ندوبا بالأرض، وتزداد الحركة في عنفها من خلال أوزان بعينها: مْفعّل (مقلّص) ويفعّل (يجلّح).
وإن نحن أقمنا مقارنة بين المشهدين وجدنا أنّ الشاعرين على تباعد الأزمنة بينهما ينظران إلى الجواد من زاوية واحدة هي الانبهار بحركته وتوظيف عناصر التشبيه من المحيط في سبيل ذلك.
وفي مثال آخر يقول امرؤ القيس3: (الطويل)
إِنْ أُمْـسِ مَكْرُوبًا فَيَـا رُبَّ غَارَةٍ
شَهِدْتُ عَلـَى أَقَبّْ رَخْـوِ اللَّبَانِ
عَلَى رَبِذٍ يَزْدَادُ عَـفْوًا إِذَا جَـرَى
مِسَحٍ حَثِيثِ الرَّكْضِ وَأَلَـذّ أَلاَنِ
وَيَرْدِي عَلَى صُمٍّ صِلاَبٍ مَلاَطِسٍ
...شَدِيدَاتِ عَـفْرٍ لَيِّنَـاتٍ مَثَانِ
مِخَشٍّ مِجَشٍّ مُقْبِـلٍ مُدْبِرٍ مَـعًا
كَتَيْسِ ظِبَـاءِ الحُـلَّبِ العَدَوَانِ
إِذَا مَـا جَنَبْنَـاهُ تَـأَوَّدَ مَتْنُهُ
كَعِـرْقِ الرُّخَامَى اهْتَزَّ فِي الهَطَلاَنِ
والحركة في هذا المشهد تبدأ من ركض الجواد ففعل حافره في صمّ الحجر وصوته (مخشّ مجشّ) في إقباله وإدباره وتنتهي عند ليونة حركته في المطاردة، ومن السهل أن نلاحظ أنّ حركة جواد امرئ القيس تنبع من ذات الجواد: فالأفعال تُنسب له وتصدر عنه في أغلبها ويكاد الأمر يكون واحدا عند الشاعر «أحمد البرغوثي» إذ يقول واصفا «الكوت»:
طَـوَّايْ فِـي البِـعِدْ شُولاَقْ
فِـــي الأرْضْ مَـــــزَّاقْ
إِذَا عْــرِقْ وِنْـشـِفْ وْفَـاقْ
يَطْرَبْ وْتَسْخَنْ اطْوَاقَه
يْخَلِّي لوْعَـرْ حَـافْـرَه زْقَـاقْ
وِالــصّـُـــمّْ دُقْـــــدَاقْ
مَجْدُوبْ فِي بَعْضْ الأسْوَاقْ
ضُرْبُوا جْوَادِبْ أطْرَاقَه
إِذَا حَسّْ بِرْكَـابْ لَهْـلاَقْ
فِـــي الأرْضْ دَيَّــــــاقْ
يُغْمَرْ كِمَـا رِمْشْ لَحْـدَاقْ
يُسْبَـقْ ارْيَــاحِ الشّْرَاقَـه
الموصوف واحد والصورة تكاد تتعاود معنى ودلالة غير أنّ الشّاعر الجاهلي يكتفي عموما بالظباء والغزلان في تقريب صورته وأمّا الشاعر الشعبيّ فيستدعي صورة مستطرفة هي من صميم الثقافة البدوية في بيئة المناطق الطرفيّة للبلاد التونسيّة وهي «المجدوب»4 الذي يغيب في تخميرته الصوفية فيأتي بالعجيب.
وفي مثال ثالث يقول المرقّش الأصغر في المفضلية السادسة والخمسين 5: (الطويل)
وَيَسْبِقُ مَطْرُودًا وَيَلْحَقُ طَارِدًا
وَيَخْرُجُ مِنْ غَمِّ المَضِيقِ وَيَجْرَحُ
تَـرَاهُ بِشَكَّـاتِ المُدَجَّجِ بلاتنَعْدَمَا
تَقَطَّــعَ أَقـْرَانُ المُغِـيرَةِ يَجْمَـحُ
شَهِدْتُ بِهِ فِي غَارَةٍ مُسْبَطِرَّةٍ
يُطَاعِـنُ أُولاَهَا فِئَــامٌ مُصَبَّـحُ
كَمَا انْتَفَجَـتْ مِنَ الضِّبَـاءِ جِدَايَةٌ
أَشَـمُّ، إِذَا ذَكَّرْتَهُ الشَدَّ أَفْيَحُ
يَجُمُّ جُمُــومَ الحِسْيِ جَاشَ مَضِيقُهُ
وَجَرَّدَهُ مِنْ تَحْتُ غِيْلٌ وَأَبْطُــحُ
ونلاحظ في حركة الموصوف ها هنا قدرته على الخروج من مأزق المطاردة واقتداره على الإفلات ونشاطه للحركة بعد أن يتصرّم أمر المغيرين وأنّه فوق هذا يشهد الغارات ويطاعن جماعتها. وهي القدرة نفسها التي يأتي بها الشاعر الشعبي بلقاسم بن عبد اللطيف6 في قوله :
قَدَّاشْ كُنْتِ تْسدِّي
وْقَدَّاشْ كُنْتِ تَلِـحْقِي وِتْـرُدِّي
وْقَدَّاشْ كُنْتِ تَدِهْمِي وِتْقِدِّي
بٍنْتِ الغَدِيدَة لْفِي الخَلاَ سَرَّاحَه7
ويمكننا أن ننظر في نصّين حريّين بالمقارنة. بل إنّ المقارنة هنا طريفة لأنّها بين شاعر انتخبه المفضّل الضبيّ وشاعرة بدويّة يضعها محي الدّين خريّف في مصافّ كبار الشعراء8:
يقول المَرّار بن منقذ9 واصفا فعل جواده: (الرمل)
يَصْـــرَعُ العِيـــرَيْنِ فِي نَقْعِهِمَا
أَحْـوَذِيٌّ حِـينَ يَهْـوِي مُسْتَـمِرْ
ثـَمَّ إِنْ يُـنْزَعْ إِلـَـى أَقْـصَـاهُـمَـا
يَخْبِطُ الأَرْضَ اخْتِبَاطَ المُحْتَفِرْ
أَلِــزٌ إذْ خَـــرَجَــتْ سَـــلَّـتُـهُ
وَهِــلاً تَمْسَـحُـهُ، مَــا يَسْتَـقِرْ
قَـدْ بَلَوْنَــــاهُ عَلَى عِـلاَّتِـــــهِ
وَعَـلَى التَّيْــسِيرِ مِنْـهُ وَ الضُّمُرْ
فَـإِذَا هِجْنَــاهُ يَــوْمَــا بَـــادِنًـا
فَحِضَــارٌ كَالضِّــرَامِ المُسْتَـعِرْ
وَإِذَا نَحْنُ خَمَــصْنَا بُـــدْنَـــــهُ
وَعَصَرْنَـــاهُ فَعَقْـــبٌ وَحُضُـرْ
يُؤْلِفُ الشَـدَّ عَلَى الشَدِّ كَـمَا
حَفَشَ الوَابِـلُ غَيْثٌ مُسْـبَكِرْ
صِفَـــةُ الثَّعْلـَبِ أَدْنَــى جَرْيِهِ
وَإِذَا يَرْكَــضُ يَعْفُـورٌ أَشِـــرْ
وَنَشَــــاصِـيٌّ إِذَا تُفْـزٍعُــــــهُ
لَمْ يَكَـدْ يُلْجَـمُ إِلاَّ مَـا قُسِــرْ
هذه القطعة التي يبلو فيها الشاعر جواده تبدو لنا صورة من أقوى صور العنفوان التي جمعت حالات مختلفة من اندفاع الحركة: في صرعه العيرَ وفي خبطه الأرضَ وفي تهيّئه للجري وفي اهتياجه حتّى كأنه اضطرام نار وفي اندفاعه حتّى كأنّه وابل من مطر وفي جمعه في الرّكض بين الثعلب والظبي ونفوره من اللّجام، وقد جاءت القطعة على نظام الفعل وردّ الفعل: فالأفعال مسنودة لضمير المتكلّم الجمع وفعل الجواد دالّ على عنف ردّ فعله، وهذا مدخل الصورة الذي سمح للنّص الشعري بالامتداد.
وعلى النّظام نفسه تقريبا نهضت قصيدة حدّي النّفطيّة:
ڨفَزْ هَـزّْ عِلْوِينْ ضَامَه شْبُورَه رْصَفّْ الحْدُورَه
دهِمّْ لَمّْ ليَّثْ صْيـُودِ العْڨُورَه
ڨفَزْ هَزّْ حَسِّ الحْدَايِدْ تْضِيمَه نَـشَّطْ حْـزِيمَه
طَـلّْ وْصِهَـلْ ڨَابْلاَتَـه غْنِيمَه
هْـدَرْ رَدّْهَـا لِلتّْـوَالـِي عْـديِمَـه صَارَتْ هْزِيمَه
نْصَرْ رَايْتَه وِانْتِصَرْ مِـنْ غَرِيمَه
جْرَى رَدّْهَـا بِالسّْوَاڨِـي فْعِيمَه وِارْكَدْ غِـيمَه
ڨَطَّعْ وْمَـزَّڨْ جْمَاجِمْ عظِيمَه
نَـوَّرْ صْفُوفَـه وْذَلَّلْ خصِيمَـه وْبَسَّـطْ نْعـِيمَه
وِتْبَاشْـروُا بْطَلِعْتَه الكْرِيمَه
رْجَعْ بَازْ يَهْوَى أطْرَافَه سلِيمَه وْنفَّضْ شْعُورَه
كَدْرُونْ وَارِدْ عَلَى حَيّْ بُورَه
فجوادها الموصوف منفعل بما أتته «الحدايد» (المهماز في ركاب الفارس) من ضيم فنشطت (الحزيمة) واندفع نحو غنيمته وضرّجها بدماء «الهاديات بنحره» وتتوالى صفات الشدّة: اركدّ غيمه، قطّع، مزّق... ودلائل النّصر: نوّر، ذلّل، بسّط، تباشر. وانتهى المشهد تشبيها عند طائرين: الباز والكدرون(ذكر النعام)، وقد ظهر من القطعتين حرص أصحابهما على اتباع ردود أفعال الجواد ووصف عنفوانه حتّى كادا يتشابهان في الوصف ولا يكادان يختلفان إلاّ في تشبيههما للجواد: فالثعلب والظبي هما مستقرّ الصورة عند المرّار والباز والظيلم عند حدّي، ولعلّها برزت عليه في تجنيس نصّها ولزوم ذلك.
ويمكننا أن نقف على بعض الملاحظات من باب المقارنة بين النصوص:
- يستمدّ الشعراء صور التشبيه من البيئة نفسها وإن نوّع بعضهم بالخروج عن المتوقّع.
- يحرصون على رفد النصوص بالعبارة المدوّية والوزن الصرفي الدال على المبالغة والشدّة.
- يستحضرون حركة موصوفهم في المكان فيجعلونه مهيمنا عليه متحكّما به منسجما معه.
ولا تقتصر الحركة فيما نرى على الحركة الماديّة المحضة التي غلبت على هذا القسم وإنّما يمكن أن نذهب بها إلى نوع آخر من الحركة، وهي الحركة النّفسيّة طالما أنّنا نجدها في المدوّنتين. وما دام عملنا ينهض على المقارنة فلا بأس من إخراج نصّين يعتبران في مظانّهما طريفين أحدهما لعنترة والآخر للشاعر الشعبي «عليّ الدليوي» رغم أننّا نجد محاورة الشاعر مع فرسه في أكثر من نصّ10.
يقول عنترة11: (الكامل)
فَـازْوَرَّ مِنْ وَقْــعِ القَنَـا بِلَبَانِهِ
وَشَكَــا إِلـَـيَّ بِعَـبْرَةٍ وَتَحَمْـحُـمِ
لَوْ كَانَ يدْرِي مَا المُحَاوَرَةِ اشْتَكَى
وَلَكَـانَ لَوْ عَلِمَ الكَـلاَمَ مُكَلِّمِي
ويقول عليّ الدليوي:
تِعْرِفْ "عْلَيّْ" رَاكِبْ الصُّوشْ
مِنْ الحَمَادَة يْجِي لْعـَمْرَه
يْــشُــقّْ مْــقِــيــلْ الـحْـنـُـوشْ
بْسِيــــفْ مَاضِي الشَّفْرَة
إذَا عْرَفْنِي الحْصَانْ مَغْشُـوشْ
يَصْـــهَـلْ تِـحْتـــِي بْنـَزْرَة
ونورد تعليقا طريفا على بيتي عنترة لمبروك المنّاعي يمكننا أن نسحبه أيضا على أبيات الشاعر علي الدليوي: «لا يهمّ كثيرا من «شكا» و«بكى» (أو غضب «مغشوش» وصرخ «نزر») في ذلك الموقف، إنّما المهمّ هذه «المحاورة» وهذا «الكلام» الذي لم يتمّ... فهما واحد، والكناية بالخيل عن الفوارس أمر معروف»12.
المشترك بين الموقفين هو هذا الانسجام النفسي بين الجواد وفارسه وتجاوب المزاج بينهما، وقد ذهب الباحث أحمد خصخوصي في مقارنته إلى إظهار تفوّق بديهة الشاعر عليّ الدليوي على عفويّة عنترة بأن «الكوت» قد رهف حسّه حتّى شعر بما في قلب صاحبه فتجاوب معه13.
ومهما يكن من أمر فإنّ في المثالين تتمّة للحركة الماديّة العنيفة بتجاوب داخلي لا يقلّ عنه عنفا انتبه له الشاعران وضمّناه نصّيهما.
وليست الحركة في بعدها المادّي أو النّفسي مطلوبة لذاتها في تصوير الجواد / الكوت وإن كانت إحدى لوازم الوصف الذي يقرّب الصورة ويجعلها قابلة للتّخيّل ولكنّ هاجس الشاعر دائما هو البحث عن «جماليّة ما» في هذه الحركة، جماليّة يطلبها الإبداع واتباع النموذج في الوقت ذاته، ولهذا كثيرا ما يذهب الشعراء في رسم جمال الموصوف من حيث يبتنون لحركته- وهي جوهر الوصف - أناقتها ورشاقة مظهرها وعلاقتها بما تريده يد الفارس ولكن أكثر من هذا - وهذا جوهر المقصد - ما تريده مخيّلة الشاعر من بناء الصور الباهرة والمبتكرة.
جماليّة حركته:
نقصد بـ«الجماليّة» غرضين يتضمّن أحدهما الآخر: ما يكون من أمر الحركة في ذاتها من جهة وما يحوّل صورتها تلك إلى إنشاء شعري من خلال تفاعل الشاعر معها على ضوء ما سقناه من وظائف الوصف في التّمهيد أعلاه، وهذا أمر من صميم المقارنة الفنيّة ومقاربة النّصوص. ولئن انصبّ مبحث «الإنشائيّة» على المدوّنة العالمة واجتهد النّقاد في «محاولة اختراق نظام اللغة الرمزي الموظّف في الشعر بغية الوقوف على القوانين الإبداعية المتصرفة فيه، ومحاولة إدراك الضوابط الفنيّة التي ينضبط لها»14، فإنّنا قليلا ما نعثر على الاجتهاد نفسه في مقاربة المدوّنة الشعبيّة.
ويمكن أن ننطلق من نماذج رغم قلّتها نعتبرها نصوصا/ نواة ومنطلقا لمزيد بذل الجهد في هذا المبحث.
يقول سلمة بن الخرشب الأنماري (المفضّلية الخامسة)15 مخاطبا مستمعا افتراضيّا: (الطويل)
فَاثْنِ عَلَيْهَـــا بِالذِي هِـــيَ أَهْـــلُهُ
وَلاَ تَكْفُرَنْهَا، لاَ فَـلاَحَ لِكَـافِرِ
فَلَوْ أَنَّهَا تَجْرِي عَلَى الأَرْضِ أُدْرَكَتْ
وَلَكِـنَّهَـا تَهْفُـو بِتِمْـثَـالِ طَائِرِ
خُــدَارِيَّـةٍ فَـتْـخَـاءَ أَلْـثَـقَ رِيشَـهَـا
سَحَابَةُ يَوْمٍ ذِي أَهَاضِيبَ مَاطِرِ
إنّ الدلالة في المقطع تتّجه في حركة معراج واضحة نحو السموّ بالموصوف: فالثّناء لا يكون إلاّ لمن كان رفيع القدر مؤهّلا لذلك، من خلال ما ظهر من عظيم أمره. ولمزيد تأكيد المعنى استعمل الشاعر «لا» الناهية و«لا» النافية الدّالة على الدّعاء لنفي «الكفر»، أي ستر مناقب فرس لا يكفر بها إلاّ جاحد. ثمّ يمتّن المعنى بكشف صورة أدخل في «المحال» بأن جعلها طائرا لا يُدرك، فطابق بين الفعلين «تجري» و«تهفو»،وهذا راجع عندنا إلى ما سبق أن أومأنا إليه في المدخل ممّا ترسّب عند الجاهلي من «أسطرة» هذا الحيوان.
ولمزيد إغراق الصورة في الأسطورة يستعير الشاعر لموصوفه «العقاب الخداريّة» (وهو ما كان ليّن الجناح وعليه غبرة من سواد) فيجريها في تشبيه تمثيلي لوصف حركة إسراعها إلى وكرها في يوم مطير (كالطير تنجو من الشؤبوب ذي البَرَدِ)16. وهكذا تكتمل صورة لا غاية لها إلاّ تحويل الواقعي إلى متخيّل ذهني بفعل الوصف وآلياته. إذ الغاية ليست «قلب السمع بصرا» بل هي إعادة تشكيل جديدة من خلال ما انطبع في قلب الواصف من فعل الموصوف فيه، فنحن لسنا بإزاء صورة بقدر ما نحن أمام جمالية رؤية يكون الشعر فيه إعادة تأسيس للواقع والوجود.
ولننظر الآن في شاهد شعبي للشاعر محمّد الحفناوي:
الوَهْـرَه أَزْرَقْ أَصْل أُمُّو مِنْ سَاسْ مْخَيَّرْ
فِي الرِّتْــعَة يُرْمُقْ يِصَرَّعْ، مَـا طَاقِشْ يُصْبَرْ
طَـالِــبْ يِـطَلَّـقْ يِطَّـارَبْ يُسْـفَرْ يِصَــدَّرْ
قَـالِـــقْ يِشَـنّـَقْ يِكْسِرْ فِي أوْذَانُو يِصَقَّرْ
وِعْـيُـونُــو تُـبْرُقْ تَقْدَحْ فِي المِشْهَابْ تْنَطِّرْ
يَـارَاجِـــلْ أُدْبَـقْ شُوفْ نْهَـارْ اليُخْرِجْ «الأبْجَرْ»
ولئن أبقينا فقط على «الجرائد» التي تخدم تحليلنا فإنّ ما أسقطناه من القصيدة هو من باب تمتين المعاني لا أكثر إذ نلاحظ:
منطلق الوصف هو تركيب بسيط لجملة اسمية ورد خبرها نكرة «أزرق» كناية عن «الكوت» وقد حشد الشّاعر لصورته كلّ الأفعال الدّالة على الحركة القلقة (ما طاقش يصبر): يصرّع (أي يصطرع في لجامه)، يطّلّق (أي ينطلق) يطّارب يسفر(أي طرب للعدو أو السفر)، يصدّر (أي يدفع بصدره)، يشنّق (أي يرفع منخريه للهواء) يصقّر (أي يتسمّع) عينو تبرق تقدح تنطّر.
وردت أفعال الحركة مزيدة على وزن نواة «فعّل» الدالة على الشدّة مما يجعل وزن الفعل يحاكي عنف الحركة. وفي الحقيقة نجد أنّ هذا الخيار الأسلوبي هو خيار مشترك مع الشاعر الجاهلي خاصّة في تخيّر ألفاظ أواخر القصائد.
تظهر في النص قدرة الشاعر على رصد الحركة النّفسيّة للـ«الكوت»في تفصيل دقيق وهو ما يجعلنا نعتقد أنّ الشّاعر يستبطن جواده استبطانا أكثر من كونه ينقل لنا صورة ماثلة في الموصوف.ولا يعدم الشّاعر الشعبي إحالة على فرس عنترة بن شدّاد «الأبجر» فيذكّر مستمعا افتراضيّا «يا راجل» (مثل الشاعر سلمة بن الخرشب الأنماري) بضرورة الاعتراف بفضل جواده.
إنّ قدرة الشاعر الشعبي على تصوير موصوفه قد تمّت من خلال كشف «جماليّة» الحركة التي يستبطنها هو نفسه ومثله في ذلك الشاعر الجاهلي. فهل يمكننا أن نقف هنا على «آلية ما» تشكّل هذا التصرّف المتشابه بين الشاعرين؟ وهل ما يتمّ وصفه هو»شبه واقع» أم هوما يتطلّبه اتباع النموذج أم هو في الحقيقة أبعد من ذينك الأمرين؟.
ولمزيد إحكام الاستنتاج في هذا الباب وتعميق المقاربة نقف عند مثالين كثيرا ما ذهب المهتمون بالشعر الشعبي إلى المقارنة بينهما لتأكيد قرب الأواصر بين النّصين17 وهما: قسم وصف «الكوت» من «ضحضاح» أحمد البرغوثي وقسم وصف المطيّة من معلّقة امرئ القيس.
يقول أحمد البرغوثي:
الله لاَ كُــوتْ هـَبَّـــاقْ
فِي الـجَــــــرِيْ سَــبَّــاقْ
غْذِي سِيـرْتَه مُـوشْ قَلاَّقْ
مَطْلُـــوقْ إِيـــدَه وْسَـاقَـه
وِلْــدْ الكْحِـيـلَه بْتُحْقَاقْ
جَـــــــابُــوهْ سُـــــــرَّاق
بَــاعُــوه بِيعَـــانْ تُــدِرَاقْ
قِبْضُــوا ثْــلاَثِـينْ نَــاقَــه
أَزْرَقْ كمَــا صُمّْ الأَمْـدَاقْ
في اللُّـــــــونْ يُــغــمـاق
مَرْشُوشْ تِرشْيشْ الأَوْجَاقْ
دَارَه بْــــدَارَه صْــفَـــاقَـه
مَهْدُولْ رِيشَـاتْ الأَشْدَاقْ
في الـجَـــــرْي لَــهْـمَــاقْ
عْيُــونَه كْمَـا صْلّْ بَلْحَاقْ
تِغْلــَقْ وْ تَفْتَـــحْ انْـشَـاقَـه
أَغْــذَنْ وْ وِذْنِيـــه تُلْبَـــاقْ
وِكْــــرُومْـتَـه شْـنَـــاقْ
عَــرْصِـــةْ جَهَــــلْ بَنْـــي
فِي بُـرْجْ طَـاحِـتْ انْطَـاقَـه
صَدْرَه كِمَـا صِيدْ الأَخْنَاقْ
وِقْــوَايْـــــمَــه رْقَــــــاقْ
وِحْــوَافْــرَه مِثْـلْ الأَطْـبَاقْ
وِالعَـــاجْ أَسْــــوَدْ حَـوَاقَه
مْتِيـنْ الظَّهَرْ مُوشْ هَقْهَاقْ
دَفَّــــــاتْ وِ زْيَـــــــــاقْ
وِكْفَلْ مَكْفُوفْ يُزْنَـاقْ
وِدْلاَلْ كَــــرِّتْ اشْـلاَقَه
من جهة الشّكل، نؤكّد أنّ هذا القسم هو إحدى لوازم منطق بناء «الضحضاح» في وصف المطيّة بعد وصف المفازة التي لا يقطعها إلاّ جواد متين أو جمل «قارح» ويأتي سابقا على قسم النّسيب والغزل الذي يعيد صلة ما انقطع، لهذا يأخذ هذا القسم بسبب من الأمرين معا. أمّا من جهة المضمون فهو وصف خالص لـ«الكوت» سيكون شبه أنموذج للشعراء من بعده لن يخرجوا عنه إلا بمقدار.
ومن حيث البناء بدأ الشاعر بعبارة تخلّص هي «الله» بمعنى الأمنية كقولنا «من لي؟» وانقسم إلى قسمين:
القيمة الاعتبارية للجواد ويمتدّ على الجريدة 1 و2.
وصف الجواد تفصيلا ويمتد على بقية القسم من النص.
ينطلق ذكر الموصوف من خلال نسبة صيغ المبالغة له «فعّال» إثباتا ونفيا واسم المفعول «مطلوق» وتصبّ كلّها في حركة سبقه «العاديات» ويتخيّل الشاعر له سرقة وبيعا مجزيا ليجعل من جواده جوهرة عقد في الخيل إذ قوّمه بـ«ثلاثين ناقة». وهذه المقايضة ترفع من قدر الجواد درجات في مجتمع بدوي يرى في الإبل مالا أعظم. وما بلغ هذه القيمة الاعتبارية إلاّ لمنزلته في الخيل. وهذا ما استوجب إيفاءه حقّ الوصف تدقيقا وتفصيلا.
ينطلق الوصف من لونه «أزرق» شبيه بـ«صمّ الأمداق» وهو حجر الصوّان ويشقّق الشاعر على سبيل الدقّة فعل «رشّ» لجعل اللون متناثرا. ويبدأ في تفصيل وصفه متدرّجا من رأسه حتّى جعله وصفا منتظما متتاليا يدلّ على وعي الشّاعر بحركة الدلالة وأنّ ما ينجزه هو أبعد عن عفو البديهة.
فالفم متهدّل الشعر وهو ما يدلّ على إقباله على الجري وعيناه شبيهتان بعيني الصلّ (نوع من الحيّات) وأنفه ينفرج وينغلق وهو يعبّ الهواء، كثيف شعر الجبين (أغذن) وأذناه متوجّستان وعنقه مرتفع (شْنَاق) مثل سارية في بناء رومانيّ قديم (جْهَلْ) وقد تهدّمت جوانبه. أمّا صدره فهو كالأسد وقوائمه دقيقة وحوافره كالأطباق يحوطها عاج أسود متين الظهر في غير عيب، متين الأضلع مكتنز الكفل أملسه، طويل شعر الذيل حتّى يصل الأرض.
وعلينا أن نلاحظ بعد هذا أنّ الصور المتتالية قد قامت لعين الشاعر من خلال أداتين: التخييل والتشبيه. أمّا التخييل فنجده فيما ابتكره من مشهد مقايضة جواده المسروق بـ«ثلاثين من النوق» ففتق للخيال هاهنا مسارا أغناه عن معتاد القول في رفع شأن الموصوف. وأمّا التشبيه فقد لجأ إليه الشاعر كلّما أراد أن يخرج عن الوصف الحسّي الذي يحاكي الواقع، فارتفع بنصّه.
ومن جهة أخرى، فإنّ اختيار الشاعر وزن «القسيم المربّع» مردّه إلى أنّه أطوع للوصف وأوسع للتفصيل وأنسب لـ«المُوقِفْ» ولهذا طبقت هذه القصيدة الآفاق وأصبحت نموذجا يحتذى في غرض «الضحضاح».
وأخيرا، نجد أنفسنا أمام عبارة التخلّص «الله» داخل خيال المتمنّي. والوصف كلّه إنّما هوما أخرجه لنا الشاعر من «مثال في الخيل» ولكن هل أُبقيَ على هذا الاعتقاد في وجداننا ونحن ننقاد لوصف الواصف؟ لا . ولعلّ هذا مما يعرف بتواطؤ الأديب مع سامعه من نظريّات التّقبّل.
نموذجنا الثاني هوقسم وصف المطيّة من معلّقة امرئ القيس18: (الطويل)
وَقَدْ أغْتَدِي والطَّيْرُ فِـي وُكُـنَاتِـهَا
بِـمُنْجَـرِدٍ قَـيْــدِ الأَوَابِـدِ هَـيْكَـلِ
مِــكَـرٍّ مِـفَـرٍّ مُـقْـبِلٍ مُـدْبِـرٍ مَعاً
كَجُلْمُوْدِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ
كَمَيْـتٍ يَـزِلُّ الـلَّبْدُ عَنْ حَالِ مَتْنِهِ
كَمَا زَلَّتِ الصَّفْــوَاءُ بِالـمُـتَـنَـزَّلِ
مِسِحٍّ إِذَا مَا السَّابِـحَاتُ عَلَى الوَنى
أَثَرْنَ الـغُبَـارَ بِـالكَدِيْـدِ الـمَـرَكَّلِ
عَلَـى الذبل جَيَّـاشٍ كـأنَّ اهْتِزَامَهُ
إِذَا جَاشَ فِيْهِ حَمْيُـهُ غَـلْـيُ مِـرْجَلِ
يـزل الغُلاَمُ الـخِفَّ عَنْ صَهَـوَاتِـهِ
وَيُلْـوِي بِأَثْوَابِ الـعَنِيْفِ المُثَـقَّـلِ
دَرِيْـرٍ كَخُـذْرُوفِ الـوَلِـيْـدِ أمَـرَّهُ
تقلـب كَفَّـيْـهِ بِـخَيْـطٍ مُـوَصَّلِ
لَـهُ أيْطَلا ظَبْـيٍ، وَسَـاقَـا نَعَـامَــةٍ
وإِرْخَـاءُ سَرْحَـانٍ، وَتَقْـرِيْـبُ تَتْـفُلِ
كَـأَنَّ عَلَى الكتفين مِنْهُ إِذَا انْتَحَى
مَـدَاكُ عَـرُوسٍ أَوْ صَـلايَـةَ حَنْظَلِ
وبَاتَ عَلَيْـهِ سَــرْجُــهُ ولِـجَامُــهُ
وَبَـاتَ بِـعَيْنِـي قَــائِـماً غَيْرَ مُرْسَلِ
فَعَنَّ لَنَا سـِرْبٌ كَـأَنَّ نِـعَـاجَـــهُ
عَـذَارَى دَوَارٍ فِي مُـلاءٍ مُــــذيَـــل
فَـأَدْبَـرْنَ كَـالجِزْعِ المُفَصَّلِ بَيْنَهُ
بِجِيْـدٍ مُعَـمٍّ فِي الـعَـشِـيْـرَةِ مُخْوِلِ
فـَأَلْحَـقَــنَـا بِـالـهَـادِيَاتِ ودُوْنَـهُ
جَـوَاحِـرُهَـا فِي صَـرَّةٍ لَـمْ تُــزَيَّــلِ
فَـعَـادَى عِـدَاءً بَـيْـنَ ثَـوْرٍ ونَـعْجَةٍ
دِرَاكـاً، وَلَـمْ يَنْضَـحْ بِمَاءٍ فَيُغْسَلِ
وَظَلَّ طُـهَـاةُ اللَّحْمِ مِن بَيْنِ مُنْضِجٍ
صَفِيفَ شِوَاءٍ أَوْ قَـدِيْـرٍ مُــعَــجَّلِ
ورُحْـنَـا وَراحَ الطَّرْفُ ينفض رأسه
مَـتَــى تَــرَقَّ الـعَـيْنُ فِيْـهِ تَسَـفَـّلِ
كَــأَنَّ دِمَــاءَ الهَـادِيَــاتِ بِنَحْـرِهِ
عُـصَارَةُ حِـنَّـاءٍ بِـشَـيْـبٍ مُــرَجَّـلِ
وأنت إِذَا اسْـتَـدْبَـرْتَهُ سَـدَّ فَرْجَـهُ
بِضَـافٍ فُـوَيْقَ الأَرْضِ لَيْسَ بِأَعْزَلِ
قيل في هذا القسم من المعلّقة الكثير واختصم في تأويله وشرحه والتعليق عليه الشرّاح والنّقاد والباحثون وليست كثرة الشروح وما طرحته من إشكاليات19 إلا دليلا على أنّ هذا القسم هو من «النّصوص الجياد» التي لا ينهيها تأويل ولا شرح. ولكن ما يعنينا هنا هوما يمكن أن يكون مشتركا، في الصورة أو مرتكزات الرؤية أو آليات الوصف، مع نموذجنا السابق.
ومن خلال موقع هذا القسم من المعلّقة يمكننا أن نؤكّد أنّه واقع بعد وصف الليل وذكر الذّئب، سابق على مشهد القنص وذكر البرق. وهذا في حدّ ذاته يجعل بينه وبين قسم وصف «الكوت» من الضّحضاح وشائج قربى، منها أنّ وصف الليل وما «أرخى من سدول الهمّ» واتباعه بذكر الذئب هو قريب معنى من «وصف المفازة التي يعوي فيها الذئب في «الضحضاح» ولنقارن بين قول الشاعرين:
امرؤ القيس:(الطويل)
وَلَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُولَه
عَلَيَّ بِأَنْـــــوَاعِ الهُمُـومِ لِيَبْتَلِي
وَوَادٍ كَجَوْفِ الـــعِيرِ قَفْرٍ قَطَعْتُهُ
بِهِ الذِّئْبِ يَعْوِي كَالــخَلِيعِ المُعَيَّلِ
أحمد البرغوثي:
يَا مُوحْشَه فَــجّْ رَهَّـــاقْ مَـقْـطُـــوعْ الآفَـــاقْ
يَصْعَـبْ عَـلَى كُلّْ وَهَّـاقْ يِخْلِيهْ مَا أَشْيَنْ رْقَاقَـه
ضِعْنِ العَرَبْ فِيهْ يَا سَاقْ وِالــبُــــومْ نَـقْـنَـاقْ
وِالذِّيبْ بِـالصُّوتْ عَوَّاقْ وٍالضَّيَعْ تَسْمَعْ زْهَاقَه
والمعنى: ما أوحشه من مكان مرهق منقطع يصعب على كلّ جبان ثمّ يستعظم قبح مفاوزه حيث ارتحل عنه العرب فلا تسمع فيه إلا نعيق البوم أو عواء الذئاب أو زمجرة الضّبع. فالمناخ واحد والعناصر مشتركة والرؤية متقاربة.
هذا فيما اتّصل من سياق الذّكر للجواد/ الكوت، وأمّا ما اتّصل أكثر فتولّد عنه سياق آخر هوما تبع هذا الذّكر من «انفراج». أمّا امرئ القيس فقد جاء بالبرق والهطل وأمّا أحمد البرغوثي فأورد ذكر الحبيبة. وهذا في ظاهر الأمر غير متين الصّلة لكن حين نتأمّل ما ساقه الشاعر الشعبي من أوصاف وتشابيه في قسم النّسيب يصبّ أغلبها في صورة الطبيعة الغنّاء بعد مطر نكون أمْيَلَ إلى تغليب هذا التأويل.
ونكتفي بإيراد أمثلة على ذلك:
وِجْبِينْـهَا بَرَقْ خَفَّاقْ تِحْتْ الرِّدَايِفْ20 شِرَاقَه
وِخْدُودْهَا وَرِدْ يُفْتَاق مِــنْ وَسْـــطْ الأَعْــلاَقْ
أمّا ما نجده في بنية النّصين فيمكننا أن نقارن في البدء بين لفظي الابتداء. فكلا الشاعرين تخلّص بالمعنى نفسه وإن اختلف اللفظ: فـ«الله لَـ» هي كما ذكرنا قالب شفوي تستعمله اللغة العامية للتعبير عن الأمنية أي أنها تشبه في القصد حرف الجرّ «ربّ»، وعبارة» وقد أغتدي «هي أيضا دالّة على الإمكان غير الواقع بدخول «قد» على الفعل المضارع فالمعنى إذن هو أمنية قد تتحقّق لاحقا أو احتمال. وهذا بدوره يقودنا إلى الأسئلة نفسها المذكورة سابقا حول صورة الجواد وعلاقتها بالمثال الذي يخلقه الشاعر من أمانيه لا من واقع الحال.
فإذا وقفنا على المتن واختبرنا آليات الوصف وجدنا فيها من المشترك الجامع أكثر مما نجد من المختلف المغاير. فإذا كان أحمد البرغوثي قد اعتمد التخييل والتشبيه عمدة لوصفه لـ«الكوت» فإنّ امرأ القيس قد نحى المنحى نفسه وله فضل الابتداء: فمن التخييل ما استعاره من صورة الغلام الذي لا يستقرّ على صهوة الجواد والعنيف المثقل الذي يلوي الريح أثوابه، في كناية عن السرعة والعنفوان ومن التشبيه الكثيف ما جعل أغلب الصور فروعا لمشبّهات بها.
وبالنّظر إلى صورة الموصوف فإنّنا نجد عند كليهما نزوعا واضحا نحو«أسطرة» هذا الحيوان وإخراجه من عالم الواقع إلى عالم الخارق ولكنّه عالم فنّي، تقول ريتا عوض: «يتجسّد الفرس في صورة أسطوريّة عظيمة وضخمة تخرجه من عالم الحياة اليومية إلى عالم فنّي يبدعه الشاعر»21. ويقول وهبة أحمد روميّة في السياق نفسه: «إنّ امرأ القيس لا يصف جوادا هاهنا، ولكنّه يبنيه بالصخور الصمّ الصلاب، أوقل: يبدع اسطورته، ويسويها بيديه»22وهذا أمر جليّ عند أحمد البرغوثي وهو يفصّل الوصف فيجعله مثالا في الخيل يأتي بالمعجزات. ويعضد هذا القولَ ما ذكرته ريتا عوض من علاقة فرس امرئ القيس ببقية الحيوانات: «إنّ الشاعر حين يرسم الفرس الكامل فإنّه يستعير له من كلّ حيوان خير ما فيه فيتجلى لا رمز الخيل وصفوتها فحسب، بل زبدة الوحش جميعا»23. وكذا الأمر عند الشاعر الشعبي وهو يأتي من الصلّ بعينيه ومن الأسد بقوائمه كما جمع الشاعر الجاهلي له خير ما في الظّبي والنعامة والذّئب والثعلب24.
أفق للإبداع آخر:
1 ـ جواز المقارنة:
تبينا من خلال ما سبق تحليله أن المقارنة بين النصّ الجاهلي ورديفه الشعبي جائزة منطقا وأسلوبا ومنهجا، ذلك أننا وقفنا على كثير من التشابه وتقاطع المعاني وتقارب الأساليب، وزوايا النظر، وتداني الرؤية، بما يجيز لنا المقارنة بينهما والتأليف بين ثقافة عالمة معترف بها، وأخرى لا تزال منكَرة مستبعدة يجتنبها الناقد فيُفردها، اعتقادا منه أن المقاربات الفنية والنظريات الجمالية وُضعت لغيرها.
2 ـ المواردة:
كانت غاية المقاربة ، فضلا على رفع بعض مظلمة على الشعر الملحون تروم اختبار المشترك من الأدب والشعر. فألفينا هذا المتشابه مشتركا غالبا. وهو ما طرح علينا السؤال حول ظاهرة المواردة بين النّصين المتباعدين زمانا المتقاربين فضاء حضاريّا. وأعاد علينا سؤالنا البحثي: هل يصحّ القول بأنّ التشابه في البيئة والثقافة وظروف الحياة ينتج نصوصا متشابهة رغم التباعد في الزّمن وانقطاع بعضها عن بعض؟
تبدو الإجابة متّصلة بما ذهب إليه الأستاذ مبروك المنّاعي في قوله: «هي مشكليّة حلّها النّقاد القدامى حلاّ طريفا. إجماله ما ارتآه ابن رشيق من تفريق بين المعاني المتداولة المتّبعة والمعاني الطريفة المبتدعة. وما ذهب إليه ابن الأثير من تمييز بين المعاني العامة « المتّفقة» التي « تشتاق الخواطر إليها من غير كلفة» فيساوي فيها جميع الشعراء لوضوحها وعمومها، والمعاني الخاصّة «المختلفة» أي الغامضة التي يختصّ بها شاعر دون آخر والتي «يدقّق الفكر في استخراجها»25. هذا يعني أنّ هناك معانيَ عامة مشتركة يسرع إليها الخاطر في بابنا هذا وهو«وصف الجواد» فتتوارد من بعضها بقطع النظر عن المكان أو الزمان. فإذا علمنا أنّ هذا مدعاة لتشابه مبدئي بين الشعراء، زيادة على تقارب البيئة الصحراوية والعلاقة المخصوصة التي ينشئها البدويّ من حيوانه، بات القول بالتّوافق والتشابه ممكنا وبناء عليه أنجزنا مقاربتنا»26.
الهوامش
1. بلقاسم عبد اللطيف المرزوقي، ديوان "القوافي في الفيافي" ط 7، جويلية 2010 ، تونس.، ومنه قصيده "ياخيل" بالصفحة 41، يقول فيها:
- سعد الكسب الزرقة سمحة قوايم سقم ماهي طرقة
- نواوير فوق روس العلالي ترقي وإلّي الكسب الحُمر نال الراحة
- أمّـــا الكسب الشُّقر وقت الشّرقه يفكـّــوه من حرّ البلي وأكلاحه
- (سعد ) بمعنى الحظّ والجدّ ، (ماهي طَرْقة ) بمعنى غير ذات عوج، (وقت الشرقة) بمعنى حين لا يجد الفارس مفرّا، (يفكّوه من حرّ البلي وأكلاحه)بمعنى يفرّون به إلى المكان الآمن.
2. المفضليات .م س ص 41
3. إمرئ القيس، الديوان، م س ص 166
4. لعله تسهيل لنطق المجذوب المعجمة أي المنجذب إلى ملكوت الله عند الصوفيين.
5. المفضليات ص 231
6. بلقاسم عبد اللطيف المرزوقي، القوافي في الفيافي، م س، ص 23
7. ( قدّاش) هي عبارة للتعظيم بالكثرة، (تلحقي وتسدّي، وتردّي، تدهمي وتقدّي) بمعنى اللحاق وإعادة المنهوب من المال والهجوم والقدرة عليه
8. - انظر محي الدين خريّف، حدّي شاعرة الصحراء الجزائريّة، دار بوسلامة للنشر والتوزيع، الطبعة الاولى، تونس، 1993.
9. المفضليات، المفضلية 16 ، ص 72 و73
10. نذكر مثلا لا حصرا قول عامر بن الطفيل:
- إِذَا ازْوَرَّ مِنْ وَقْعِ الرِّمَاحِ زَجَرْتُه وَقُلْتُ لَهُ: ارْجَعْ مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرِ
- نوري حمودي القيسي، الفروسية في الشعر الجاهلي، م س، ص 63.
11. ديوان عنترة بن شداد ص 20
12. مبروك المناعي، في انشائية الشعر العربي م س ص 112
13. أحمد الخصخوصي، من مغاني الشعر الشعبي ومعانيه، منشورات المركز الوطني للاتصال الثقافي، الطبعة الاولى، تونس، 2013 ص 24
14. مبروك المناعي، في انشائية الشعر العربي م س، ص 3
15. المفضليات ص 25
16. - عجز بيت للنابغة الذبياني صدره: والخيل تمرغ غربا في أعنتها [كالطير تنجو من الشؤبوب ذي البرد]
17. يقول محي الدين خريّف: ضحضاح أحمد البرغوثي هو في شهرته كمعلّقة امرئ القيس "قفا نبك"، الشعر الشعبي التونسي، م س، ص ص 161
18. الحسين أحمد الزوزني، شرح المعلقات السبع، ، م س ص 39 - 50
19. يمكن العودة لكتاب سليمان الشطي، المعلقات وعيون العصور، سلسلة علم المعرفة العدد 380، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سبتمبر 2011
20. الردايف: السحاب المترادف
21. ريتا عوض، بنية القصيدة الجاهلية: الصورة الشعرية لدى امرئ القيس، دار الاداب، الطبعة الاولى، بيروت، 1992، ص214
22. وهب أحمد روميّة، شعرنا القديم والنّقد الجديد، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سلسة عالم المعرفة، العدد 207 لسنة 1995، ص 236
23. نفسه ص218
24. يمكن العودة إلى المقارنة اللطيفة التي أجراها الباحث محمّد المرزوقي بين الشاعرين في كتابه: الأدب الشعبي في تونس م س، ص 59 ـ 68
25. - مبروك المناعي، الشعر والمال، م س، ص 41
26. - ورد في كتاب محمد المرزوقي الأدب الشعبي في تونس، م س، ص 59، ما نصّه: " ويمتاز الشعر البدوي في تونس ـ خصوصا في الجهات التي يقطنها أحفاد هلال وسليم ـ بمحافظته على الصّور الشعريّة المعروفة في الشعر العربي القديم ـ خاصة الجاهلي ـ فإنّك لا تكاد تفرّق بين الصور التي جاء بها شعر جماعة من الجنوب في وصف الفرس والمهري والمطر، وبين ما جاء في شعر امرئ القيس وطرفة مثلا في هذه المواضيع".
المصادر
- الضّبّي( المفضّل بن محمّد) المفضّليات، تحقيق عمر فاروق الطباع، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم، الطبعة الأولى، بيروت - لبنان، 1998
- ابن شدّاد (عنترة): الديوان، شرح حمدو طمّاس، دار المعرفة، الطبعة 2، بيروت 2004
- امرؤ القيس: الديوان، ضبطه وصحّحه مصطفى عبد الشّافي، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، الطبعة الخامسة، بيروت لبنان، 2004
- خريف (محي الدّين) : مختارات من الشّعرالشّعبي التونسي وزارة الثقافية تونس د.ت
المراجع
- خريّف (محي الدّين)، حدّي شاعرة الصحراء الجزائريّة، دار بوسلامة للنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى، تونس 1993.
- نوري حمودي القيسي،الفروسية في الشعر الجاهلي، مكتبة النهضة العربية، الطبعة الثانية، بيروت / لبنان 1984
- الخصخوصي، أحمد، من مغاني الشعر الشعبي ومعانيه، منشورات المركز الوطني للاتصال الثقافي، الطبعة الاولى، تونس، 2013 ص 24
- المرزوقي (محمد)،الأدب الشعبي في تونس، الدار التونسية للنشر،1967.
- روميّة (أحمد وهب)، شعرنا القديم والنّقد الجديد، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت (سلسلة عالم المعرفة) العدد207 لسنة 1996
الصور
1. https://www.puzzlewarehouse.com/Running-Horses-39168.html
2. https://www.judikentpyrah.com/uploads/1/3/0/9/13097887/__8105985_orig.jpg
3. https://www.judikentpyrah.com/uploads/1/3/0/9/13097887/img-e3224_orig.jpg
4. https://www.judikentpyrah.com/uploads/1/3/0/9/13097887/img-e3223_orig.jpg
5. https://www.judikentpyrah.com/uploads/1/3/0/9/13097887/paintings-of-arab-horses_orig.jpg